«الكوسة» تعبير مصرى فريد، يلخص كل ألاعيب الفساد والرشوة والمحسوبية التى يمارسها كل من يملك ليأخذ ما لا يستحق، توقفت أمامه دراسة خاصة فى جامعة «ويسترن ميتشيجان» الأمريكية، قامت بها الباحثة آشلى أوبرمان وحملت بالنص عنوان: «الفساد فى مصر: تأثير الكوسة على النمو الاقتصادى والاستقرار السياسى». بكل جدية، وضعت الدراسة مصطلح «الكوسة» ب«العربية» فى قلب عنوانها، تساءلت عن سبب توغل و«تغوُّل» الكوسة إلى هذا الحد فى حياة المصريين، بحيث لم تعد مرتبطة ببقاء نظام، ولا بزواله، ولا بقيام ثورة ضد الفساد، ولا بانهيارها. أما نحن فحاولنا أن نصوغ «قوانين» ل«الكوسة» مما ورد فى الدراسة. تلك الدراسة التى حاولت أن تفهم ظاهرة ربما لا يفهمها المصريون لكنهم يعيشون بها، حتى صارت فى حد ذاتها قانوناً لا يقبل المناقشة. قانون الكوسة رقم (1): «كوسة الكبار غير كوسة الصغار» تشير الدراسة إلى أن عبقرية مصطلح «الكوسة» الذى اخترعه المصريون للتعبير عن الفساد، يختلف عن كل تعريفات الفساد الأخرى. يمتد ليشمل كل أنواع الفساد: من قمة السلطة إلى قاع المجتمع. كوسة الكبار تصفها الدراسة بأنها «فساد القيادات السياسية المؤثرة، وفساد كبار المؤسسات السياسية أو الحكومية أو الاقتصادية». أما كوسة الصغار فهى: «فساد ضباط وأمناء الشرطة العاديين، أو عساكر الجيش من أصحاب الرتب الصغيرة، وكل من يتعامل معهم، أو يساهم فى الفساد السياسى بشكل عام». «قد لا يبدو فساد الصغار بنفس درجة تخريب وتدمير فساد الكبار. قد لا يحمل نفس الدرجة التدميرية على مصالح وحياة الناس أو على المجتمع ككل، لكن فى مجتمع مثل مصر ينتشر فيه فساد الصغار بهذا الشكل، فإن ذلك يكون دليلاً على تغوُّل حجم فساد الكبار الذى ينتشر تلقائياً من القمة إلى القاع. بعبارة أخرى: فإن فساد الصغار لا يمكن أن يوجد أبداً بغير فساد الكبار الذى يغذيه ويبقيه ويطلقه على باقى طبقات المجتمع». ويظل تعريف «الكوسة» للكبار أو للصغار واضحاً: «إساءة استخدام السلطة للحصول على مكاسب خاصة، وتحويل الموارد والثروات العامة إلى الثروات والجيوب والحسابات الخاصة دون وجه حق». قانون الكوسة رقم (2): «الناس يفسدون بالقدر الذى يسمح به النظام» قدمت الدراسة وصفاً للظروف التى يزدهر فيها الفساد فى مصر، قالت: «إن الناس يفسدون دائماً بالقدر الذى يسمح به النظام. عندما يتعرض شخص ما لإغراء الفساد ويعرف أنه من المسموح له أن يفسد يزدهر الفساد وينتشر على مستوى واسع. وكلما كان المجتمع حديث العهد بالديمقراطية، تزايد انتشار الفساد فيه». «فى مثل هذا المجتمع، يكون نظام الحكم ما زال ضعيفاً، ومعدلات رواتب الموظفين فى الحد الأدنى لها، بما يغرى المسئولين بالبحث عن مصادر إضافية لرواتبهم». وتواصل الدراسة: «ويتمسك بعض هؤلاء بحجة أن درجة معينة من الفساد تكون مفيدة فى المجتمعات النامية مثل مصر. فمثلاً يكون إنهاء معاملات الأوراق الرسمية فى بلد لم تصل فيه المؤسسات الرسمية إلى كامل طاقتها، قد يكون من الضرورى رشوة مسئول ما لإنهائها بشكل فعال وسريع. وفى مثل تلك الظروف قد تبدو الرشوة (أهم وأشهر صور الفساد والكوسة فى مصر) شيئاً مفيداً، ولا يتم النظر إلى أضراره على المدى البعيد، تلك الأضرار التى تصل إلى حد التدمير شبه الكامل للاقتصاد». قانون الكوسة رقم (3): «الكوسة تنتشر دائماً من القمة إلى القاع» تقول الدراسة: «إن تأثير الفساد أو الكوسة فى المجتمع، يتكون بطريقة أشبه بكرة الثلج. يبدأ من القمة، من قمة المؤسسات الحكومية وينحدر ليصل إلى المستويات الأقل فى السياسة والاقتصاد والأعمال». «توجه الكوسة موارد الدولة إلى جيوب المسئولين الفاسدين، بدلاً من توجيهها لمشاريع التنمية التى تفيد المواطنين. وتكون النتيجة المنطقية الأولى هى أنها توجه هذه الموارد أيضاً للأجهزة الأمنية لمواجهة الغضب الشعبى ضدها، وتزيد من حجم الاقتصاد غير الرسمى. قد يقرر الأشخاص أو المؤسسات غير القادرة على دفع الرشاوى للمسئولين، التى لا تملك العلاقات والاتصالات المطلوبة لتنمية عملها، أن تصبح جزءاً من السوق السوداء». «يزداد نمو الاقتصاد غير الرسمى على حساب الاقتصاد الرسمى، الذى يصبح بالطبيعة أقل قدرة على المنافسة. وتفقد الحكومة مزيداً من العائدات، بما يسبب مزيداً من الأضرار للمواطنين، ويفقد الدولة بالتالى شرعيتها أكثر فأكثر فى كل مرة يظهر فيها عجز الحكومة عن الوفاء باحتياجات المواطنين». قانون الكوسة رقم (4): «الكوسة تتغذى على الكوسة» تقول الدراسة: «إن الكوسة فى مصر تؤثر سلباً على القوانين، والحريات، والمجتمع المدنى. صحيح أن الفساد يفتح الباب دائماً لمطالب شعبية بمزيد من التشريعات القانونية لمحاربته ومواجهته، إلا أن ذلك لا يؤدى أبداً إلى معاقبة المسئولين الفاسدين أو تحسين النظام. كل ما يحدث، هو ظهور تشريعات مطاطة، مبهمة، متقلبة ومتغيرة المعانى بحيث لا تسمح أبداً بالإمساك بالفساد بشكل حاسم». «والمثير للدهشة أنه كلما ازداد توغّل الفساد فى مجتمع ما، تزايدت المطالب الشعبية بسن قوانين ضده. وجرت العادة فى مصر، كما هو الحال فى غيرها من الدول النامية، أن المسئولين فيها يتعرضون دائماً لضغط شعبى لسن قوانين ضد الفساد. وربما يتظاهرون أحياناً بالاستجابة لهذه المطالب، إما لتهدئة الغضب الشعبى ضدهم، أو لتحسين صورتهم أمام الدول المانحة للقروض والمساعدات». على أن الأخطر، كما تواصل الدراسة: «هو أن المسئولين قد يتعرضون لضغوط من مسئولين فاسدين آخرين لتمرير قوانين تعزز من قدرتهم على الاستفادة من الفساد. أحياناً بتوفير «ثغرات» قانونية فى تشريعات مكافحة الفساد، أو بالتستر على فسادهم من الأساس، ويكون هذا نموذجاً واضحاً على الفساد الذى يدعم بعضه، ويتغذى كل جزء منه على فساد الجزء الآخر». «ومما يزيد الأمر سوءاً أن العقاب لو وقع، فإنه لا يقع أبداً على كبار المسئولين. وعادة، فإن من يدفعون ثمن الكوسة هم صغار الموظفين، بينما نادراً ما يصل العقاب إلى المسئولين الكبار، على الرغم من أن صغار الموظفين، بمرتباتهم الضئيلة التى لا تكفى لإعانة أسرة، هم أشد الناس احتياجاً لمصادر الدخل الإضافية حتى وإن كانت من مصادر فاسدة لتغطية احتياجاتهم الأساسية. وعلى الرغم من ذلك، فإن الفوائد المادية الكبيرة التى يجنيها المسئولون من الفساد والكوسة، تجعل من الصعب عليهم أن يكفوا عنها». قانون الكوسة رقم (5): «الكوسة عندما تدخل فى مجتمع لا تخرج منه» انتبهت الدراسة إلى أن إحدى الخصائص العجيبة للفساد، أو الوساطة والمحسوبية والكوسة: «هى أنها تعد دائماً ظواهر يمكن علاجها والتخلص منها عندما تبدأ بالانتشار فى مجتمع ما، لكنها تتحول إلى سرطان مقيم فيه، يصعب اقتلاعه أو التعامل معه لو تمكنت من هذا المجتمع وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منه. فى تلك الحالة، تتخذ المؤسسات، والهيئات، والقواعد والقوانين وكل أشكال السلوك، أشكالاً تتلاءم مع الفساد، وتسير على قوانينه ونظمه». وتواصل الدراسة: «أن هذا هو الحال بالضبط فى مصر، حيث توغلت الكوسة فى كل جزء من تفاصيل حياة المجتمع، وصار الناس يعتمدون عليها للبقاء والاستمرار. بشكل يضع علامة استفهام كبيرة حول إمكانية أن تصبح مصر يوماً ما دولة بلا فساد بعد ذهاب نظام مبارك». هو الوضع الذى أوردته الدراسة بكلمات الصحفى البريطانى جون برادلى: «من المؤكد أن بدون الواسطة، لا يتم أى شىء. اسم اللعبة هنا هو «مَن» الذى تعرفه وليس «ما» الذى تعرفه. إن الأمر لا يدور حول تصريف أمورك فى جانب ما من جوانب الحياة كما هو الحال فى أى مجتمع فى الدنيا. لكن الكوسة، أو الواسطة أصبحت هى «كل شىء» فى حياة المواطن المصرى، والعربى بشكل عام». «حتى مجتمع الأعمال المصرى، صار ملوثاً بالفساد، لأنه كان معتمداً طيلة الوقت على النظام السياسى الفاسد للبقاء. ووصلت هذه الحالة إلى أعنف مراحلها فى عهد مبارك، كانت إدارة أى عمل أو مؤسسة فى عهد مبارك تتطلب مشاركة واحد من آل مبارك أو المقربين منهم. لو تعاونت معهم، إذن فقد ضمنت لنفسك احتكاراً على الصناعة أو المجال الذى اخترته. ولو رفضت، فلا مفر من أن تخسر أعمالك أو ما هو أسوأ. وصار جمال مبارك الآن يواجه اتهامات بأنه كان يزيد من نفوذه السياسى فى السنوات الأخيرة حتى يدخل سياسات وتشريعات اقتصادية جديدة على مصر، تضمن له ولشركائه نهب مزيد من موارد مصر العامة». وتواصل الدراسة: «تصف حالة جمال مبارك التداخل الذى تم بين مجتمع الأعمال ومجتمع السياسة المصرية، بحيث صارا يرتبطان معا برابط واحد هو الفساد. لو أن صاحب أى بيزنس جديد أراد أن ينجح ويزدهر فى عهد مبارك، كان لا بد عليه أن يصبح جزءاً من الفساد السياسى لنظامه. علاقة طفيلية تغذت على الاقتصاد المصرى، و«شفطت» الأموال من البلاد». قانون الكوسة رقم (6): «الكوسة صديقة عدو النظام» فى ظل أى نظام فاسد يحيا على الكوسة، تصبح أى معارضة له بالطبيعة معارضة لوجود الكوسة أو الفساد. وكان ذلك هو السبب، كما تقول الدراسة، فى أن صارت جماعة الإخوان المسلمين هى أكبر المستفيدين من الكوسة فى مصر. تقول الدراسة الأمريكية: «إن الإخوان عملوا على الربط بين فساد حكومات مبارك، والحالة الاقتصادية المتردية التى صارت فيها مصر. وكانوا يظهرون دائماً معارضتهم الشديدة للفساد المنتشر فى الدوائر الحكومية، على اختلافها، ونجح الإخوان فى الحصول على تعاطف وتأييد المصريين بسبب فساد الحكومات والإدارات المصرية خاصة فى الفترة الأخيرة». وتواصل: «فى كل مرة كانت الحكومة المصرية تفشل فيها فى توفير الخدمات والرعاية المطلوبة لمواطنيها، كان الإخوان يتقدمون لسد الفجوة، ويرجع جزء كبير من شعبية الإخوان بين المصريين قبل الثورة إلى أنشطتهم التنظيمية، فكل فرع فى «الجماعة» مختص بالعمل على أحد الجوانب الاجتماعية التى فشلت الحكومة فيها، مثل بناء العيادات، والمدارس والمساجد، أو دعم مشروع أو صناعة محلية ما، وأدى هذا إلى أن يصبح الإخوان، وهم فى موقع المعارضة، جزءاً طبيعياً من المشهد المصرى، يجتذبون إليهم أعضاء جدداً يعرفونهم بفلسفة وأيديولوجية الجماعة، وفى أكثر سنوات الجماعة ازدهاراً، وصل الحال إلى أن صارت أنشطة الإخوان شديدة الحيوية بالنسبة للمصريين بحيث اضطرت الحكومة لتمويل بعضها عندما فكرت فى حل الجماعة، وهو أمر لم تنجح فيه بطبيعة الحال». على أن السبب الأساسى لجاذبية وشعبية الإخوان بالنسبة للمصريين فى عهد مبارك، كما تقول الدراسة: «أن الإخوان يعتقدون أن التغييرات التى سيقومون بها سوف تقلل من المشاكل المرتبطة بالفساد والمحسوبية والرشوة، ويعدون بأن يحدوا من قدرة الكبار على استخدام الواسطة والكوسة للحصول على تعاقدات بمشاريع الحكومة مثلاً، وزيادة الشفافية فى هذه التعاملات، وكلما فقد المصريون ثقتهم فى النظام الفاسد وحكوماته، كان ذلك النظام يفقد شرعيته فى أعين المصريين، بينما يكتسب الإخوان أرضية جديدة كل يوم لدى المواطنين، ويجتذبون إليهم ولاءهم». «سَدَّ الإخوان الثغرات التى تركها فساد النظام، ومنحهم ذلك شرعية لدى المواطنين، وأظهر قدرتهم على تحقيق وعودهم بإحداث تغير اجتماعى وتحسن فى ظروف الناس المعيشية. على العكس من نظام مبارك الذى كان يعد دائماً بإحداث تغيير دون أن يحس الناس بأى تغيير فى أوضاعهم على الأرض، وهكذا صار الثقل السياسى للإخوان فى فترة ما قبل الثورة يقوم على شعبيتهم الشديدة بين الناس، وبنائهم التنظيمى المحكم، وموقفهم العلنى والراسخ والرافض للفساد والمحسوبية والكوسة فى عهد النظام السابق». قانون الكوسة رقم (7): «الكوسة تكذب على المصريين وتتجمل أمام الأجانب» طرحت الدراسة عدة تساؤلات مهمة: «كيف تأثر المواطن المصرى العادى بالفساد والكوسة السياسية؟ كيف أثرت على أحواله وحياته؟ وكيف أدخل المصريون الكوسة فى كل أجزاء وتفاصيل حياتهم اليومية، ثم خرجوا يصرخون فى ثورة يناير مطالبين بوضع حد لها وللفساد الذى ضرب كل جزء فيهم؟». «كانت إحدى أهم علامات تفشى الفساد والكوسة بين المصريين فى حياتهم اليومية هى تجاهل المواطن العادى للقوانين بشكل روتينى، لأنه كان يعرف أنه حتى لو تم تطبيق القوانين، فلن يتم تطبيقها بشكل حاسم، بل بما يرضى الضابط أو العسكرى الفاسد. أحد المجالات التى يبدو فيها هذا واضحاً هو المرور، كل قوانين المرور موجودة فى مصر لكن المواطن العادى يتجاهلها بشكل طبيعى، تسير السيارات فى الاتجاه المعاكس وتحتك بالسيارات والأتوبيسات الأخرى وتتجاهل الإشارات تماماً، ونادراً ما تتم معاقبة المخطئين أصلاً، إلا إذا كان هناك ضابط أو أمين شرطة مستفيد من رشوة ما، كان تجاهل هذه القوانين نوعاً من احتجاج المصريين، وتمردهم على نظام مبارك كله، بفساده وقمعه ورشوته ومحسوبيته. مجال آخر كان يتبدى فيه تجاهل المصريين للقوانين، هو التجاوزات التى كانت تحدث مثلاً فى المناطق الأثرية، قانوناً ممنوع التصوير إلى جوار معظم الآثار المصرية، ولكن القانون غير المكتوب أن كل سائح يمكنه أن يلتقط صوراً كما يريد طالما قدم الرشوة المناسبة لحارس الآثار. ما يهمنا هنا ليس فقط قابلية الحرس للرشوة، ولكن رغبتهم فى أن يتلقوا الرشوة، ومبادرتهم بها. كانت تصرفات المواطن المصرى البسيط، بسعيه للرشوة وقبوله لها واعتماده عليها، أمراً مفهوماً بالنسبة لمن يسير فى شوارع مصر، ويرى المنتجعات والبنايات الفاخرة وفاحشة الثراء، غير بعيدة عن البنايات العشوائية والمتهالكة والقذرة التى تسكنها نسبة كبيرة من المصريين. كانت تلك الفوارق الفادحة بين الثراء الفاحش والفقر المدقع فى مصر، هى إحدى النتائج المباشرة للفساد والكوسة، وظواهر تزداد حدتها فى كل مرة يزداد فيها الفساد توغلاً وتوحشاً، على الرغم من أن النظام المصرى كان يقوم بإجراء عمليات تجميل ظاهرية فى بعض المناطق التى كان يعرف أن القادة أو المسئولين الأجانب يمرون عليها، فينظف القمامة ويزرع الأشجار ولكن، دون أن ينزع الفقر المقيم فيها». «لم تكن الثروة التى امتلكها نظام مبارك والمستفيدون منه وسيلة لتحسين ظروف الشعب، ولكنها كانت وسيلة لإبهار الأجانب وتقديم واجهة براقة ولامعة من الثراء، مما جعل المواطنين أكثر إحساساً بآثار الفساد والكوسة السياسية على حياتهم اليومية، فى كل مرة يرون فيها «مِصْرَيْن»، واحدة لمن يملك كل شىء بالكوسة، والأخرى لمن لا يملك إلا القليل من كل شىء». قانون الكوسة رقم (8): «الكوسة فى مصر هى قانون البقاء» تقول الدراسة: «يستجيب المصريون بطريقتهم الخاصة للفساد الذى ينحدر إليهم من القمة إلى القاع، إن الفساد والكوسة فى مصر يسيران فى محدد ومعروف، يبدأ بقمة النظام، عندما يطلب مسئول كبير فى الحكومة «حصة» أكبر من المكاسب ممن هم أدنى منه، لتحقيق ذلك، يضطر من هم أدنى منه لاقتطاع حصة ممن هم أدنى منهم، وهكذا حتى يصل الأمر إلى أدنى درجة فيهم، ينطبق ذلك واضحاً على حالة حسنى مبارك الذى كان يجلس على قمة هرم من الفساد، امتد حتى وصل إلى أقل موظف عنده، لكن لم يستفِد منه إلا أصدقاؤه وعائلته وهؤلاء الذين استفادوا من قربهم من الفرعون». وتواصل: «عندما انتشر هذا النظام من الفساد ليصل إلى كل مستويات وفئات المجتمع، صار المواطن العادى يعتمد على الفساد ويعتبره وسيلته للبقاء، مما جعل الفساد والرشوة والكوسة والمحسوبية جزءاً من المفردات العادية التى يستخدمها المواطن العادى لمواصلة حياته، فصار الفساد نفسه جزءاً من حياته، فهل يستطيع يوماً أن يتخلص منه؟ يستجيب المصريون للفساد بثلاث طرق: إما أن يسايروه وينضموا إليه، أو يطيروا هرباً منه، أو يقفوا فى مواجهته ويموتوا، الحل الأسهل بالنسبة للمصرى العادى هو أن يساير الفساد ويصبح جزءاً منه، خاصة لو أن كل ما يريده هو الاستمرار ومواصلة دعم أسرته، بينما اضطر العديد من المصريين الموهوبين والشرفاء إلى الهجرة والإقامة فى الخارج هرباً منه، أما القلائل الذين حاولوا الوقوف فى وجه الكوسة، فانتهى بهم الحال فى السجون، أو فى القبور بسبب موقفهم من الفساد، هذا الموقف الذى لو اتخده كثيرون لانكسرت سلسلة الفساد فى مصر، لكن ثمنه كان فادحاً». قانون الكوسة رقم (9): «من يجرب الكوسة لا بد أن يعود إليها من جديد» كان السؤال الأكثر أهمية الذى طرحته الدراسة هنا هو: هل الكوسة، والفساد، مجرد أزمة أو مشكلة فى مصر، أم أنها صارت أكثر من ذلك «جزءاً من قيم المصريين وثقافتهم العامة»؟. «عندما تصبح قيمة، أو فكرة، أو سلوك ما جزءاً من ثقافة مجتمع، فإن ذلك يحدث لأن هذا السلوك يزيد من ترابط وتماسك أفراد المجتمع، ويصبح جزءاً من اللغة المشتركة بينهم. بعض الثقافات ترفض الفساد والرشوة، وبعض الثقافات الأخرى تتسامح معه وتسمح به، لذلك تتقدم بعض المجتمعات، بينما تتراجع أخرى». «ربما لذلك يجد كثيرون أن محاربة الفساد فى مجتمع، صار معتاداً على الفساد، وأساليبه، ومستريحاً لفوائده، مثل مصر، صار أمراً لا جدوى منه، ما دام الناس معتادين على أن الرشوة صارت وسيلة لتسهيل الأمور وبناء العلاقات، ولم يعودوا يتصورون شكلاً بديلاً لإنهاء أمورهم، بل يحتاجون لإعادة تصورهم وفهمهم من جديد للحظة التى تتحول فيها الهدية إلى رشوة، وتصبح فيها المجاملة فساداً غير مقبول». «كانت أشد لحظات رفض المصريين للكوسة، هى تلك التى أطلت برأسها فى ثورة يناير، عندما احتل مطلب إنهاء الفساد جزءاً أساسياً من مطالب المتظاهرين، إلى جوار مطالب العدالة الاجتماعية والمطالبة برحيل النظام، كان هذا الاحتجاج الصارخ هو رد فعل الشعب على نظام مبارك الذى لا يتجاوب، ولا يتغير، ولا يعتمد عليه، ولا يعرف إلا الفساد والمناورة». «كانت ذلك هو رد فعل الشباب فى مجتمع صار فيه القمع والفساد جزءاً من حقائق الحياة العادية، وكان كل منهما عاملاً أساسياً من عوامل ثورة المصريين، وهو ما ظهر فى التهم الموجهة ضد مبارك ونجليه الآن، كلها اتهامات بالفساد واساءة استخدام السلطة».