أتساءلُ: ما الدلالةُ التى تنطوى عليها ظاهرةُ التحرُّش الجنسىِّ المتفجِّرة فى مصر هذه الفترة؟ وما الرسالةُ التى يودُّ المتحرشون أن يرسلوها إلينا عبر سلوكهم غير السوىِّ؟! حينما ينحرفُ، فجأةً، مسارُ مجتمع عن «الكود القياسىِّ» الذى درجَ عليه قروناً، فذلك يعنى أن ثمة كلمة يريد أن يقولها هذا المجتمعُ عبر هذا الانحراف المباغت. لا شىء فوق الأرض يحدث اعتباطاً، لا سيَّما حين يدخل سلوكٌ ما، فى طور الظاهرة. بعد هزيمة 67، دخل المجتمعُ المصرى فى حال من العبثية ورفض الاعتراف بانكسار الحلم. تجلَّت تلك الحالُ بوضوح على سلوك الشارع المصرى، مثلما تجلَّت على الفن؛ فشاعتِ الأغنياتُ الهابطة الفارغة مثل «الطشت قال لى»، و«العتبة جزاز»، وغيرها، كذلك انتشر المسرحُ التافه والأفلام الرديئة، بعد موجة عالية رفيعة من المسرح والسينما شهدتها مصرُ منذ أوائل القرن الماضى وحتى نهاية الستينيات، لحظة الانكسار، وخيبة الأمل. هنا رسالةٌ عالية الصوت صرخ بها مثقفو المجتمع المصرىِّ، من شعراء وكتَّاب دراما، تقول لصانع القرار: «لقد خذلتنا! سرنا وراءك نحملُ الحلمَ فى صدورنا، فإذا بك تقودنا إلى طريقٍ نهايتُه الظلام!» وترجم هذا المعنى الشاعرُ الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى فى قصيدة: «مرثية العمر الجميل»، قائلاً: «مَن تُرى يحملُ الآن عبءَ الهزيمةِ فينا/المُغنِّى الذى طافَ يبحثُ للحُلم عن جسدٍ يرتديه/ أم هو الملكُ المُدَّعى أن حُلمَ المُغنِّى تجسَّد فيه؟» حدث الشىءُ نفسه بعد الحرب العالمية الأولى التى أفقدت العالمَ الثقةَ فى قادة الشعوب، وفى استخدامهم نعمةَ التكنولوجيا. تلك التى كان ينبغى استغلالُها لرَغَد الناس ونمائهم، فإذا بالحكَّام يتوسَّلونها لإبادة الشعوب وتخريب أجسادهم بالإشعاع النووى لينتجوا أجيالاً تسكنها الأمراض والسرطانات والتشوهات. وتجلَّى ذلك الرفض فى ظهور مدارس فنيَّة عبثية مثل الدادائية والسوريالية تُصوِّر الإنسانَ مشوَّهاً فاقد التناسق قبيحَ الملامح، واختفتِ الكلاسيكية والتأثيرية التى صوَّرت جمال الطبيعة واتساق الجسد البشرى ووسامة ملامحه. هنا رسالةٌ متمردةٌ رافضة لأجندة حكَّام العالم الساعية نحو هلاك البشرية. وعَوْدٌ للسؤال بصدر المقال. ما الحلم الذى انكسر بعد ثورة يناير، فانعكس على سلوك شباب مصرَ لتُطلَّ ظواهرُ بغيضة برأسها فى ساحتنا المصرية كالتحرُّش والبلطجة وانعدام الأخلاق؟ هل خيَّبتِ الثورةُ حُلمنا بغدٍ أجمل؟! أتجوُّل الآن فى شارع برودواى المزدحم بمنهاتن/أمريكا. فتياتٌ لا حصر لهن يلبسن الشورت، والفساتين القصيرة. أراقبُ جيداً لأضبط حالة تحرُّش واحدة؛ فأطمئن أن بلادى الطيبة لا تحتلُّ المرتبة الأولى عالمياً فى التحرُّش، كما تقول الإحصاءاتُ الحزينة! لكننى، من أسفٍ، لا أجدُ حولى إلا شباباً وشابات جادين وجادَّات، يسرعون الخطوَ إلى أعمالهم وكليَّاتهم. بينما فى بلد الأزهر، حيث الحجابُ والنقابُ واللحى والقيمُ التى علَّمتها مصرُ للعالم قبل آلاف السنين، يُنتهَكُ الجسدُ والوقتُ والآدميةُ والخُلُق. ثمة رسالةٌ هنا يقولها المتحرِّشُ، فأنصتوا إليها.