تحدّثنا في الحلقة السابقة عن معنى التحرش الجنسي، وطرقه، وعن حجم الظاهرة في مجتمعاتنا، واليوم نستكمل حديثنا عن الأماكن التي تكثر فيها حالات التحرش الجنسي والنماذج الخاصة به، وذلك في السياق التالي: أماكن التحرش: أولا: خارج البيت: يمكن أن يحدث التحرش في العديد من الأمكنة؛ ومنها: الشارع: ويكون في صورة كلمات بذيئة، أو نظرات متفحّصة، أو اعتراض لطريق الضحية، أو محاولة لمسها، أو الاحتكاك بها، وقد يبدو هذا وكأنه غير مقصود؛ بحيث إذا اعترضت الضحية ادّعى الجاني أن هذا حدث صدفة دون قصد. وسائل المواصلات: يغلب أسلوب التحكك واللمس والضغط بحجة الزحام أو محاولة المرور من بين الناس، أو قد يُظهِر بعض الركاب أنه نائم فيلقي بيده أو رجله أو رأسه على أحد أجزاء جسد الضحية؛ على اعتبار أنه ليس على النائم حرج، فإذا تقبّلت الضحية أكمل مشوار التحرش، أما إذا شكت أو تململت فإنه يُبدي اعتذاره، ويتعلّل بنومه. ولهذا تم تخصيص عربات ترام للنساء لحمايتهن من التحرّش (ومع هذا نجد الكثير من النساء والفتيات يُفضلن الركوب في عربات الرجال، رغم أنها أكثر ازدحاما!). الأسواق: حيث الزحام والصخب وانشغال الناس بالفرجة والمساومة على الأسعار تكثر اللمسات والاحتكاكات، ولذلك يقصد العابثون الأسواق بالذات لتحقيق أغراضهم. الشواطئ: حيث تسود حالة من التراخي في القيم والأعراف؛ على اعتبار أن الشاطئ مكان للهو والمرح، تنطلق رغبات المتحرّشين في صورة تأمل وتفحّص للأجساد العارية، ثم تعليقات على صاحبات الأجساد، وإذا أمكن محاولات الاقتراب واللمس بدرجاته على غير رغبة من الضحايا. وفي حمامات السباحة حيث تتعرّى الأجساد، ويجد المتحرّشون فرصة للاقتراب أو الاصطدام الذي يبدو غير مقصود ولا مانع لديهم من التظاهر بالاعتذار، والاعتذار نفسه يعطي للمتحرّش فرصة للاقتراب، والحديث مع الضحية، وتصويب النظرات إليها عن قرب. السينما: حيث الظلام والتجاور بين الناس من كل الجهات يجد المتحرّش الفرصة للمس، أو القرص، أو الضغط بالأيدي، أو الأرجل، أو إصدار تعليقات سخيفة وخارجة وجارحة على مسمع من الضحية. أماكن العمل المزدحمة أو المغلقة أو المعزولة: خاصة إذا كانت هناك فرصة للخلوة الآمنة تستيقظ رغبات المتحرّش (أو المتحرّشة)، وتخرج في صورة نظرات ذات معنى أو كلمات ذات دلالة أو حركات أو لمسات أو همسات. السجون: حيث الحرمان الجنسي للجنسين والوحدة والعزلة، وفقد الأمل والفراغ، كل هذا يُوقظ الغرائز الدنيا في الإنسان، ويدفعه دفعا للتحرّش، وربما هتك العرض أو الاغتصاب، ولهذا تدعو جمعيات حقوق الإنسان إلى إتاحة الفرصة للمسجونين والمسجونات بالتقاء زوجاتهم وأزواجهن؛ لتصريف هذه الطاقة في مساراتها الشرعية، وذلك للتقليل من دوافع الانحراف داخل السجون، ولتلبية الاحتياجات الإنسانية الفطرية بشكل صحيح. ولا تخلو بعض الأماكن الراقية مثل النوادي من محاولات التحرّش بأشكالها المختلفة. الدروس الخصوصية: تم رصد الكثير من حالات التحرش بالفتيات أو بالأطفال، بعضها تم الإبلاغ عنه، وبعضها يتم التغطية عليه اتّقاءً للفضيحة أو تجنّبا للمشكلات، وبما أن الدروس الخصوصية أماكن لالتقاء الشباب والرجال بالفتيات والأطفال في أماكن مغلقة لا تخضع لأي رقابة حكومية أو أسرية، لهذا تكثر حالات التحرش، وما هو أكثر من التحرش في هذه الأجواء الخفية والمعزولة. بعض العيادات أو المستشفيات: حين تمتد عين أو يد الطبيب أو التمريض أو المساعدين إلى جسد المريضة في غير ذات ضرورة. مكاتب المديرين ورجال الأعمال: حيث السكرتيرة الحسناء والمدير المتألّق ومن ثمّ يَنشط الطمع الذكوري لدى الرجل النرجسي؛ فيرى أن جسد السكرتيرة وجمالها ملك يمينه، وربما تتحرّش هي أيضا به؛ فالجو في داخل المكتب المغلق والتواجد الطويل والمريح معا يساعد كثيرا على ذلك. دور العبادة: حيث ربما يصعب تخيّل وجود حالات تحرّش؛ حيث الجو الروحاني، وحيث إن الناس تذهب إلى هناك لأداء العبادات وليس لإشباع الرغبات، إلا أن الواقع يقول إن هناك حالات تحرّش تمت وتتم في بعض دور العبادة؛ حيث يأخذ المتحرّش دور الواعظ أو المعلّم أو المحفّظ، ويختلي بالأطفال أو (يختلي بالفتيات)، وهنا يحدث المحظور، وقد يأخذ شكل لمسات أو أحضان قد تبدو أبوية، ثم تتطوّر مع الوقت إلى أشياء أكثر وضوحا، وقد يخشى أو يخجل الطفل من الإفصاح عنها لأبويه؛ فيستمر الوضع لشهور أو سنوات، والأبوان مطمئنان لوجود ابنهما أو ابنتهما في أحد دور العبادة تحت رعاية شيخ أو واعظ أو محفّظ يتظاهر بالتقوى والورع. ثانيا.. داخل البيت: قد يحدث التحرّش من أحد المحارم؛ كالأب، أو الأخ الأكبر، أو الأم، أو الأخت الأكبر، أو مِن أحد الأقارب؛ كالعم، أو الخال، أو غيرهما... والإيذاء النفسي الذي يحدث من تحرش أحد المحارم أو أحد الأقارب يفوق بكثير ما يحدث من الغرباء؛ فهو يأتي ممن يتوقّع منهم الرعاية والحماية والمحافظة، لذلك حين يحدث تهتز معه الكثير من الثوابت، وتنهار الكثير من الدعائم الأسرية والاجتماعية، وتدع الضحية في حالة حيرة واضطراب. نظرا لخروج الفتيات للعمل تندفع النفوس المحرومة والمنفلتة تخطف ما ليس مِن حقها بيئة التحرش: يبدو أن الظروف الحياتية الحالية تمثّل ما يمكن أن نطلق عليه "بيئة محرّضة على التحرّش"، ونذكر منها ما يلي: الازدحام: فحين تتقارب الأجساد إلى درجة الالتصاق في البيت والشارع والمواصلات والمدارس والجامعات والنوادي والشواطئ وفي كل مكان، فإن هذا يُشكّل أرضية مهيجة ومنشّطة لدوافع التحرّش لدى المهيئين لذلك، وربما لدى غيرهم لممارسة التحرش. وهناك لدى علماء الاجتماع ما يُسمّى ب"المساحة الحضارية"، وهي المساحة التي يتحرّك الفرد فيها داخل المجتمع، ومن المعروف أنه كلما تقلّصت هذه المساحة الحضارية، كثرت الاحتكاكات والمشكلات في التعامل بين الناس، وزادت الميول العدوانية. اقتراب الجنسين في كل مكان: فنظرا لخروج الفتيات والنساء للدراسة والعمل، فقد أصبح الحضور الأنثوي والاقتراب الأنثوي أحد مظاهر الحياة الحالية، وفي غياب الإشباع الكافي لاحتياجات الجنسين وغياب القيم الأخلاقية والدينية، تندفع النفوس المحرومة والمنفلتة تخطف ما ليس مِن حقها؛ متعللة بالحرمان أو القرب. العشوائيات: وهي بيئة تجمع بين الازدحام والفقر والحرمان والتلوّث البيئي والأخلاقي، ولذلك فهي بيئة نموذجية لتصدير كل الأمراض والتشوّهات الأخلاقية والاجتماعية إلى بقية قطاعات المجتمع وطبقاته. الخطاب الديني والإعلامي: فالخطاب الديني المتشدد الذي يُصوّر المرأة على أنها جسد مدنّس مسكون بالغواية والإغراء، ويجب إخفاؤه أو وأده بعيدا عن الأنظار، هذا الخطاب يجعل المرأة جسدا مرغوبا بالفطرة الطبيعية لدى الذكور، ومكروها ومحتقرا في نفس الوقت لدنسه وغوايته. وهذه التركيبة تُشكّل أرضية للتحرّش؛ فالمتحرّش هنا يتوق إلى هذا الجسد، ويرغبه، وفي نفس الوقت يخافه ويحتقره. والخطاب الإعلامي على الرغم من تناقضه مع الخطاب الديني المتشدد؛ فإنه يصل تقريبا إلى نفس النتيجة، فهو يعرض جسد المرأة عاريا، ويستخدمه للترويج للسلع والأفلام والمسرحيات والأغاني، فيبعث برسالة إلى المشاهد مفادها أن المرأة عبارة عن جسد جميل مليء بالإغواء والإغراء ونداءات المتعة. إذن فكلا الخطابين يصلان إلى نتيجة واحدة -على الرغم من تناقضهما الظاهري- مفادها أن المرأة ليست كيانا إنسانيا جديرا بالاحترام والحب والمودة والرعاية، وإنما هي كائن شيطاني مليء بألوان المتعة والغواية. ولهذا نجد المتحرّش يحمل في تكوينه كلا من الرغبة الجنسية والعدوان تجاه المرأة التي يتحرّش بها؛ فهو يريد أن يستمتع بجسدها دون اعتبار لها كإنسانة محترمة، فيخطف منها ما يريد، ويتركها بلا أي اهتمام أو رعاية. المسكرات والمخدرات: وهي تساعد الشخص على إخماد قوى الضبط النفسي والأخلاقي، وبالتالي تحدث لديه حالة من الانفلات، وحالة من غيبوبة الضمير. نماذج التحرش: يأخذ التحرش إحدى الصور التالية: تحرّش فردي: مدير مع سكرتيرته، موظف مع زميلته، مدرّس مع تلميذته... إلخ. تحرّش جماعي: ويحدث حين يتجمّع عدد من الأشخاص حول ضحية، وخطورة هذا النوع أن التجمّع يعطي حالة من الجرأة وعدم الشعور بالمسئولية الفردية، وربما يدفع للتنافس بين المتحرّشين؛ فيأتون بأفعال يصعب قيام أحدهم بها على المستوى الفردي، وهذا ما حدث في التحرش الجماعي في وسط القاهرة أمام سينما مترو وفي شارع طلعت حرب في عيد الفطر 2006، وأحدث حالة من الهرج والمرج والهلع الشديد لدى الضحايا ولدى غيرهم؛ إذ ظهر الشباب المتحرّش في حالة انفلات غرائزي شديد ومتبجح وغير معتاد في المجتمع المصري. تحرّش سلطوي: ويتم في الدول البوليسية المستبدة؛ حيث يقوم الجهاز الأمني بالتحرّش بالمعارضين أو التحرّش بزوجاتهم أو بناتهم بهدف نزع الاعترافات أو الضغط النفسي الشديد عليهم، وقد يتجاوز الأمر من التحرّش إلى الانتهاك أو الاغتصاب، وهذا يُشكّل قمة العدوان على كرامة الإنسان؛ لأنه يصيبه في شرفه وكرامته وكيانه الإنساني يهدم فيه كل هذه المعاني. ويكثر التحرش الجنسي السلطوي تجاه المعارضات من الفتيات والنساء؛ حيث يعلم النظام السلطوي المستبد حساسية هذه الأمور بالنسبة لأي فتاة أو امرأة؛ فيعمد إلى تسليط أعوانه للتحرش بالمعارضات في المظاهرات أو أثناء الانتخابات، وذلك لبثّ الرعب في نفوسهن ونفوس غيرهن. وهذا التحرّش السلطوي يحدث حين تنحدر أخلاقيات النظام الأمني والسياسي إلى الدرك الأسفل من السلوك، وهو دلالة على فقد الشرعية، وعلى فشل هذا النظام في التحاور والمنافسة الشريفة. تحرش عكسي: وهو يعني أن تتحرّش الأنثى بالرجل، وهو عكس المعتاد من تحرّش الرجل بالأنثى على أساس أن الرجل هو الأقوى جسديا، وهو المبادر بالتحرش في أغلب الأحيان بسبب طبيعته الذكورية، ومع هذا نجد نماذج من تحرّش المرأة بالرجل، خاصة لو كانت أكبر سنا أو أكثر خبرة أو أعلى في المنصب أو المكانة الاجتماعية، أو امرأة مسترجلة، أو لديها ميول جنسية مضطربة أو سادية النزعة.