طبقا لما هو مدون فى بطاقة الرقم القومى بتاعتى، فإن اسمى الرسمى هو «paramyx virus» أى فيروس «باراميكس» المسبب لمرض التهاب الغدة النكافية (تسمع أخبارها كثيرا فى هذه الأيام) وكما ترى حضرتك فهذا الاسم يبدو خواجاتى وطبعا صعب جدا على خلق الله الغلابة الذين أعاشرهم وأحتكّ بهم يوميا بحكم عملى ونشاطى فى أبدان أطفالهم (وفى أبدانهم هما كمان، أحيانا) ولهذا عندما كبرت وترعرعت وفهمت الدنيا كويس اخترت لنفسى اسم دلع ظننته بسيطا وسهلا، «مرض النكاف»، غير أن زبائنى البسطاء استصعبوه هو أيضا ومن ثم استبدلوا به كُنية أخرى اخترعوها واستوحوها من شكل الأصداغ المنتفخة للأطفال والفتية الذين أهاجمهم وأسوح قليلا أو كثيرا (حسب الظروف) فى أجسادهم التعبانة أصلا، فأما هذه الكنية التى كنت أستغربها زمان لكنى الآن تعودت عليها، فهى «أبو الكفوف» أو «أبواللُّكّيم».. هل عرفتنى الآن؟! حسب معلوماتى المتواضعة والكلام لأبو اللُّكيم ليس ضروريا لما الواحد يكتب مذكراته يتكلم عن حالته الاجتماعية، ومع ذلك يا سيدى لو انت مهتم قوى بحالتى، أنا فيروس أعزب لم يسبق لى الزواج غير أننى أعول، لأن التكاثر عند المخلوقات أمثالنا لا يحتاج إلى زواج، وقد بقيت كذلك، أى أعزب، حُرا طليقا حتى فى أيام غربتى الطويلة التى قضيتها فى بعض بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، بعدما اضطررت إلى الرحيل من هذا البلد تحت ضغط حالة البطالة التاريخية وظروف العيشة الصعبة جدا التى كابدناها نحن معشر فيروسات وميكروبات البؤس بسبب كارثة التقدم الهائل الذى أصابته أغلب المجتمعات البشرية وتمتعها بأساليب حياة عصرية ونظم صحية متطورة وطرق فعالة للوقاية، صيّعتنا وشردتنا وقضت (تقريبا) على فرصنا فى العمل وكسب الرزق الحلال، فلم يعد أمامنا إلا إنفاق الوقت فى لعب النرد والكوتشينة على القهوة إلى أن يأتى الفرج، الذى أتى الآن أخيرا والحمد لله (بفضل الست «الجماعة») بعد طول هجرة وغربة عن هذا البلد. أكتب لكم هذه السطور وأنا قاعد مستمتع ببلهنية حلوة أشم الهواء العليل (من العلة) فى منطقة أنف وأذن وحنجرة الطفل المصرى الذى أشتغل عليه حاليا.. والحقيقة لازم أعترف بأن يوم العمل الأول أمضيته بأقل قدر من التعب والمعاناة وبلا أى مشكلات، والفضل فى ذلك يرجع إلى طبيعة المجتمع القائم فى جسم هذا الولد الغلبان، إذ هو -ولا تستغرب- مجتمع «كوزموبوليتانى» بامتياز، فما إن وطئت قدماى أرض جوفه حتى فوجئت بكم هائل متنوع من «الجاليات» الفيروسية والميكروبية والبيكتيرية تقيم وتعيش كلها فى هذا المكان مرتاحة جدا ومبسوطة خالص ومستقرة تماما، ولا تشعر بأى غربة، ولفرط دهشتى وإعجابى بهذا المجتمع قلت لصديقى «فيروس سى» الذى تعرفت عليه وكسبت صداقته بسرعة بعدما شملنى برعايته وكرمه من أول لحظة: يا أستاذ «سى»، أنا حقيقى مش مصدق هذا الذى أراه بعينى فى هذا المكان.. كل الجاليات وكل زمايلنا العاملين فى شتى الأمراض موجودون هنا.. أشعر وعهد الله بأننى قفزت إلى «سفينة نوح»، الدنيا كلها موجودة معانا! ضحك «سى» ضحكة رائقة عذبة وقال لى: طيب، يلَّا بسرعة غيّر هدومك عشان آخدك معايا فى العربية أعملك جولة سياحية على أهم معالم جسم الولد، وتتعرف بالمرة على المناطق اللى ح تشتغل فيها، وخلينا نكمل الكلام فى السكة. أذهلتنى فخامة سيارة فيروس «سى»، لكنى لم أندهش كثيرا فقد عرفت منه أنه مقيم وقاعد فى هذا الجسد من فترة ليست قليلة وشغله ماشى عال العال.. اللهم لا حسد، وقد بدأنا الجولة بمنطقة «الجهاز الهضمى» والأمعاء المحيطة بفندق «فم المعدة» الفخم الذى تنزل فيه عادة وفود فيروسات «البارا تيفود» بأنواعها المختلفة، ثم بعد ذلك مررنا (بينما العربية ماشية تتبختر «سلانسيه») على كورنيش «مجرى الدم» حيث تتسكع عادة وتأكل الذرة المشوى مجموعات البلهارسيا والإنكلستوما، فضلا عن «الأنيميا».. وقد لاحظت أنه فى كل منطقة أو زاوية عبرنا عليها كان هناك دائما زملاء يتهللون ويهللون بمجرد رؤية سيارة صديقى «سى» المميزة وهى تتهادى مقبلة عليهم، وكان كثير منهم يلوحون له هاتفين: اتفضل يا باشا اشرب شاى، وكان الباشا (هذا هو لقبه المعتمد منذ أن تم تتويجه عميدا للجالية الفيروسية الساكنة فى الأبدان المصرية) يرد بابتسامة ساحرة ويلوح محييا، لكنه فى مرات عدة أوقف سيارته وقدمنى لبعض الزملاء بعبارات وأوصاف أخجلت تواضعى واحمرت من سماعها أذناى، وقد تمنى لى الجميع طيب الإقامة والتوفيق فى مهمتى. أخيرا، عدت إلى الفندق بعد وليمة عشاء فاخرة أقامها فيروس «سى» على شرف العبد لله فى قصره المنيف المطل على ساحة منطقة الكبد، وكنت مسرورا مظأططا ومزاجى آخر عنب، ولولا نصيحة «سى» لى بأن أرتاح هذه الليلة لشرعت فى العمل فورا.. ونِمت قرير العين معاهدا نفسى أن أشمر عن ساعد الجد فى الصباح الباكر، إن شاء الله.