ألقت سعاد حسنى نظرة من نافذة سيارتها. اكتشفت أن جارها هو كمال الطويل. رفعت يدها بالتحية، ابتسمت، وقالت له بخجل: عايزة أغنّى. كمال الطويل وقتها هو نجم التلحين. صنع مع عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين أغنيات فسّرت «ميثاق» عبد الناصر برومانسية صوت عبد الحليم المسهبة وبلغة خفيفة على القلب، رغم أنها تعليمية مباشرة. الثلاثة من جيل واحد تقريبا. كمال الطويل أكبرهم ولد فى 1922. وهو ابن مدينة مثل صلاح جاهين درس فى مدرسة الأورمان الابتدائية بمدينة الجيزة ثم فى معهد الفنون التطبيقية (تخرج فيه فى 1942). ومن ناحية هو زميل دفعة عبد الحليم فى الفصول الليلية لمعهد الموسيقى العربية. معهم كانت فايدة كامل (رئيسة لجنة الثقافة فى مجلس الشعب والمغنية المشهورة بأغانيها الوطنية وبزيجتها لوزير الداخلية الأخير فى عصر السادات) وأحمد فؤاد حسن (قائد الأوركسترا ومؤسس الفرقة الماسية التى رافقت عبد الحليم فى أغلب فترات نجوميته). كانت السياسة جزءا من تربية جيل شارك فى المظاهرات ضد الملك والإنجليز والأحزاب الفاسدة، والطويل يعتبر هذه المظاهرات هى بداية وعيه.. ويحكى: «حين قامت الثورة بقيادة زعيمها العظيم جمال عبد الناصر توسمت خيرا حتى فوجئت بقرار نقلى من الإذاعة، حيث كنت مسؤولا عن موسيقى الأغانى فيها. وجاء قرار النقل إلى وزارة التموين، وكان السبب فى ذلك هو عدم (استلطاف) بعض المديرين فى الإذاعة لى، فأنا كنت شابا متحمسا أحاول أن أخطو خطواتى بطريقة غير تقليدية، وكان هذا يثير حفيظتهم ضدى، وعلى الرغم من توسط صلاح سالم أحد ضباط الثورة لى فى هذا الأمر عن طريق شقيقه وصديقى فى الوقت نفسه (محيى) فإننى رفضت العودة وبدأت مشوار التلحين كمحترف لا كموظف فى الإذاعة».. هذه الواقعة كانت بدايته أيضا مع ألحان الثورة.. التى وصل إلى ذروتها من البداية حيث كان اللحن الأول هو نشيد جمهورية عبد الناصر وكما حكى الطويل.. «كان ذلك فى وقت العدوان الثلاثى عام 1956، وكانت نشيد (والله زمان يا سلاحى).. كان العدوان يواصل غاراته، وأنا بداخلى نار تغلى. وأسأل نفسى.. ماذا أفعل؟ حتى اتصلت بصلاح جاهين لأحدثه فى ما أنا فيه وضرورة أن نقدم عملا فنيا معبرا، ووصل حديثى مع جاهين إلى درجة الاندماج والحماس، وأتذكر أننى عبرت له عن (مزيكة) فى دماغى، لم تكن واضحة المعالم، حتى طلب منى جاهين أن أغلق الهاتف، وبعد قليل عاود الاتصال بى، ليقول لى: اسمع يا كمال: (والله زمان يا سلاحى.. اشتقت لك فى كفاحى)، اتصلت بأم كلثوم وقرأت لها الكلمات واستمعَت إلى اللحن، وانتقلت أنا وجاهين إلى منزلها فى الزمالك، وكان فى انتظارنا معها عازف الكمان أحمد الحفناوى، وقائد فرقتها الموسيقية عبده صالح، وعازف الإيقاع إبراهيم عفيفى، وأذكر ونحن نقوم بتجهيز اللحن وقعت غارة، وجلسنا جميعا على ضوء الشموع، وشاهدت أم كلثوم تتسلل إلى البلكونة لتشاهد الغارة، فأسرعت وراءها لأقول لها (ما فيش داعى يا ست الكل لتصيبك شظية) فردت بتلقائية (شظية إيه يا كمال؟ أنا نفسى أمسك بصوابعى طيارة من طياراتهم، وافعصها بإيدى).. ورغم نصيحة القيادة لنا بعدم تسجيل النشيد فى الإذاعة، وتسجيله فى استوديو مصر خوفا من الاعتداء على الإذاعة، رفضت أم كلثوم وقالت: «أموت فى الإذاعة أحسن ما يقولوا هربت».. لم يتغير لحن الجمهورية إلا عندما وقّع السادات «كامب ديفيد». وقتها عاد إلى نشيد ثورة 1919 (سعد زغلول والوفد والليبرالية المصرية) والمدهش أنه فى نفس الوقت تقريبا عاد كمال الطويل إلى نفس اللحظة بطريقة مختلفة فقد أصبح مؤسسا فى حزب الوفد الجديد. وتصعد فى هيئاته الإدارية ورشح نفسه فى انتخابات مجلس الشعب على برنامجه السياسى. العودة كانت مختلفة فقد ظل الطويل يحب عبد الناصر وعبد الحليم. وظلت فى الذاكرة الأغانى الشهيرة من «إحنا الشعب» و«السد العالى» و«بالأحضان» و«صورة».. وفى الأغنية الأخيرة منع عبد الحليم كمال الطويل من السفر. كانت الأغنية قد أصبحت بندا من بنود الثورة. بل تكشف أنها هى التى كانت أكبر حقيقة فى مشروعها الدعائى. رفض الطويل تلحين الأغنية متعللا بالمزاج السيئ، تدخل عبد الحكيم عامر الرجل القوى ومساعده شمس بدران (المتيم بمناخات الطرب فهو صاحب الجلسات الشهيرة مع عبد الوهاب التى كان يغنى له فيها بشكل منفرد). أصر الطويل، وحجز بطاقة السفر. وفى المطار فوجئ بقرار المنع. ظن فى البداية أنه بدران، لكنه اكتشف أن عبد الحليم هو المحرك. وخرجت الأغنية لتستخدم فى أعياد الثورة وحتى اليوم بعيدة عن دلالاتها السياسية. الطويل له أيضا أغانٍ مع نجاة ومحمد قنديل تنحو باتجاه عاطفى كلاسيكى. لكنه فى كل مرة يكتشف مناطق الشجن فى صوت المطرب فتبدو نجاة معه فى حالة فريدة كما بدا عبد الحليم السياسى معه منفردا. هذا ما بحثت عنه سعاد حسنى فى تلك اللحظة العابرة. كانت تريد اكتشاف نفسها وصوتها. وعندما عادت إلى البيت وجدته على التليفون يسمعها دندنات مبهمة أصبحت فى ما بعد.. «خلى بالك من زوزو». اكتشف شخصيتها البريئة الشقية الرومانتيكية. وهذا ما جعله يرتبط باسمها فى مرحلة أخرى.. لماذا أتذكر الحكاية الآن..؟ لا أعرف على وجه الدقة.. ربما لأعرف كيف كتبت أغنية صاغت الوطنية فى مرحلتها العسكرية؟ أو لأؤكد أننى مع حبى لكمال الطويل وربما للشجن كله.. فإننى أريد أيضا أن تنتهى مرحلة وطنية الشجن والسلاح؟ أو لأننى أتصور أن وطنية السلاح مرحلة.. مجرد مرحلة يمكن أن يحييها أو تثير الشجن.. لكنها ليست قدرا.