وجد اليهود أنفسهم، إذ خرجوا من مصر، منتظمين لأول مرة تحت قيادة، وهم الرعويون المشتتون سابقًا بين الأمم. هذه -عادة- المرحلة الأولى فى أثر الأديان على «قليلى الحضارة». ترفعهم. ثم مر التاريخ اليهودى، كغيره من الأديان، بمرحلة سلطة الكهنة. لاحظى! لقد احتفظ هارون بن عمرام اللاوى -أخو موسى- لأبنائه بالكهنوت. بخيالى الروائى أرى هارون المنظِّر الحقيقى للدين اليهودى، بينما كان موسى القائد الميدانى له. علاقة تشبه العلاقة بين لينين وستالين. سأذهب إلى الثنائى الشيوعى حين أتحدث عن الأميين تحت قيادة الفكر اللا دينى، متخذًا الحزب الشيوعى الستالينى مثالًا. أما الآن فلنظل مع اليهود. يبدو أن اليهود ملّوا من حكم الكهنة، فطالبوا لأنفسهم بمَلِك دنيوى، وهنا جاء دور الملك شاؤول، ثم الملك داوود، والملك سليمان. بمجرد أن تحول الدين المبنىّ على معارف الأميين إلى دولة (ضئيلة، وليست كما يحاول العهد القديم أن يصوّرها) حدثت المواجهة المحتومة بين الحَرْفية وبين العَصْرية، بين الأمية وبين التعليم، بين الشفاهية والكتابية. بين الكهنة من أبناء هارون اللاوى وبين الملوك. شىء شبيه بهذا حدث فى أول صراع فى التاريخ الإسلامى. وتلك قصة لها وقتها. المهم، انتقلت المعارف اليهودية الدنيوية والتاريخية بالمسيحية إلى العالمية. الرسل من بعد المسيح الناصرى نقلوا دعوته، كالعادة، إلى المستضعفين، الفقراء، الأميين، الكادحين، ملح الأرض، مع فارق واحد، بسيط وشاسع فى نفس الوقت، أن هؤلاء الأميين كانوا أبناء حضارات كبرى، وليس كما حدث مع اليهود سابقًا، ومع العرب لاحقًا. لقد كانت نقمة الأميين المصريين على النخبة عظيمة. عظيمة لدرجة أنهم آمنوا بكتاب مقدس رغم أنه، وربما لأنه، يسبّ حضارتهم، حضارة نخبتهم. كان المؤمنون الجدد -إذن- أبناء حضارة، لكنهم يعيشون على الهامش منها، يكرهونها. يكرهون منتجاتها، لا يشعرون أنهم استفادوا منها شيئًا. فكّرى كم مرة يتكرر هذا فى التاريخ! لاحظى خطاب الإسلامجية (والشعبويين من بين اليسار) إلى تابعيهم من الأميين الجدد. بل فكّرى لماذا سأقارن يومًا بين انتشار المسيحية فى مصر وأوروبا، وبين انتشار الشيوعية فى روسيا القيصرية. نقطة مهمة جدا هنا. فى تلك اللحظة التاريخية لم يكن المصريون يعرفون عن تاريخهم القديم شيئًا. تاريخ ملوك مصر الفراعنة مدوَّن برموز لم يعد باستطاعتهم قراءتها، وبالتالى لا يربطهم به شىء. وصار الكتاب المقدس الذى ينسبهم بداية إلى مصرايم بن حام (الملعون هو وأبناؤه) ابن نوح مصدر معرفتهم التاريخية. بل أكيد أنهم لم يكونوا يعرفون من الكتاب المقدس -على عادة الأميين- إلا ما انتقاه لهم «أهل الاختصاص» (النخبة الجديدة – هع). لم يقضوا فقط على النخبة، بل على اعتزازهم بتاريخهم كمجتمع، على حضارة بيئتهم. منذ ذلك الزمن لم تقم لمصر قائمة، فالإسلام أكد التقييم التوراتى السلبى للحضارة المصرية. الكتابة جعلت معارف اليهود الأمية، ومن آمن بها من الأميين بعدهم، هى الحكم على تاريخ مصر. صار من يفتشون عن معبد واحد وحيد الحكمَ على بناة الأهرام والمعابد التى تحدت الزمن. مرة أخرى: السلوك نفسه يتكرر. الأميون الجدد يصولون ويجولون بعته فى النظريات العلمية التى بنت الحضارة الإنسانية الحديثة. ويجدون من أتباعهم الأميين من يمصمص الشفاه إعجابًا واستحسانًا. شىء شبيه، ولكنه ليس مماثلًا -العهد القديم لم يتناول تاريخ أوروبا- حدث فى قارة العلوم والمنطق، مع الدولة الرومانية فى عصر ضعفها. المساحة لا تكفى للخوض فى الجانب الخاص بصراع السلطة هناك. لكن حين أقول إن تاريخ المسيحية الأوروبية هو تاريخ عصر الظلام الأوروبى فإننى لا أسعى إلى الانتقاص من الدين المسيحى. ليست الأديان موضوعى، إنما النسخة التى أفرزها الأميون من أتباعها. ومن ثَم لا مناص من الاعتراف بالدور الذى قام به رجال دين مسيحيون منفتحون كالقديس أوغسطين، وتوماس الإقوينى، ثم -طبعا- مارتن لوثر، فى التمهيد للنهضة الأوروبية. الفارق بين مارتن لوثر وغيره أن لوثر قدّم نسخة مسيحية مناسبة للمدينة، مناسبة للحضر، مناسبة للمتعلمين. نسخة تقدِّر -نسبيًّا- العلم والحضارة، بدلًا من النسخة التى تناطح الحضارة. نسخة مارتن لوثر التى واكبت اختراع الطباعة حثّت الأميين على أن يتعلموا، ولم تحاول إقناعهم بأن يقبلوا فقط ما يريده «أهل الاختصاص» من الكهنة، رجال الدين. ثم إنه إياكِ أعنى، فاسمعى يا جارة! غدًا، الإسلام