«الإثنين»(1) آمن الفراعنة بأن الإله الخالق «خنم» المتمثل فى صورة إنسان له رأس كبش (غنم) خلق الإنسان وغيره من الكائنات من طمى النيل، سوّاه على نفس الآلة اليدوية التى يوضع عليها الصلصال، ويصنع منها الفخرانىُّ (صانع الفخار) أوانيه. أما عند البابليين، فتقول الحكاية التى روتها الكتب الإغريقية عن الكاهن البابلى «بيروسوس» أن الإله «بعل» قطع رأسه، وإن سائر الآلهة جمعوا الدم المتدفق وعجنوا به التراب، وخلقوا البشر من هذا الطين الدموى الأحمر. «أدوم» فى العبرية تعنى «أحمر». «أديم» فى العربية تعنى ظاهر الأرض. اتفق معظم الحضارات القديمة، بالتفكير المجرد، على أن الإنسان خُلق من طين. لأن هذا ما رأوه بأعينهم. من الطين ينبت الزرع. تنبت الحياة. ولولا ضيق المساحة لذكرت عشرات الأمثلة. من الشرق إلى الغرب. (2) العبرانيون عاشوا فى مصر، وعاشوا فى بابل. وكاتب التوراة استخدم هذه المعارف الشائعة فى صياغة عبقرية لرواية الإنسان. لم يكن الطين هو جوهر الموضوع. لاستطاع كُتَّاب العهد القديم إن شاؤوا أن يسكتوا تماما عن المادة المستخدمة. إنما جوهر الموضوع فلسفة الخير والشر، والطاعة والمعصية، والصدق والخديعة. كلها معانٍ كانت الأساس فى الفصل الأول من قصة ممتدة غيرت شكل الكون، وتحكمت فى طريقة فهم الناس له. بل إن نفس القصة -قصة خلق آدم- صيغت فى العهد القديم حسب الزمن الذى كُتبت فيه. والكتاب المقدس -كما ذكرتُ أمس- ليس من عند الله لفظًا. لم يدَّعِ أحد من اليهود، ثم المسيحيين، هذا. كما أن الترتيب الحالى للعهد القديم ليس موازيا لتاريخ كتابته. ربما يأتى الأسبق فى الكتابة متأخرا فى الترتيب. نحتاج الآن إلى هذه المعلومة فى موضوعنا. الإصحاح الثانى من سفر التكوين (من المصدر اليهوى) كُتب قبل الإصحاح الأول بقرون. ولذلك، قصة الخلق فيه تفصيلية. وصورة الله فيها تشبه الصورة التى كان البدائيون الأميون يتخيلونها. إذ «جبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض». أى صب عليه الماء وخلقه. تماما كما كان المصريون يتخيلون خلق الإنسان على يد معبودهم «خنم». وكما كان غيرهم يتخيله. لكن الإصحاح الأول من سفر التكوين (من المصدر الكهنوتى، غالبا أيام السبى البابلى، بعد نحو 600 سنة من كتابة الإصحاح الثانى)، فقد بدا فيه الله بصورة أكثر تجريدية، تناسب تطور عقل الإنسان، إذ يقول للشىء كن فيكون. هكذا، بهذه البساطة. حتى من كتبوا العهد القديم أدركوا -بتعليم إضافى- تطور الفكر بالزمن. واتجهوا إلى الجوهر (التجريد) أكثر. (3) ما يسرى على خلق الإنسان من طين، يسرى على ما بعده من قصص الخلق الأولى. وخذى مثلا قصة الحية التى فتنت حواء. القدماء كانوا يربطون الحية بالخلود (لاحظى التسمية – حية). كانوا يعتقدون -على نمط معارف الأميين- أن الحية إذ تغير جلدها تستعيد شبابها. وفى ملحمة جلجامش (كُتبت قبل الميلاد ب2350 إلى 2750 سنة) أفشى الإله «أوتنابيشتيم» للبطل -الذى تحمل الملحمة اسمه- سر وجود نبات له القدرة على استعادة الشباب. ووصل إليه جلجامش بالفعل، لكنه نزل النهر ليتحمم، فاستغلت الحية الفرصة وتسللت وسرقت هذا النبات السحرى. اقرئى عن قصة الطوفان (تلك مبحث عظيم) وغيرها فى ملحمة جلجامش، وفى كتاب جيمس فريزر الرائع الذى غيَّر حياتى «الفولكلور فى العهد القديم». إننى الآن أقرؤه للمرة الرابعة. واقرئى عن التفسير التوراتى لاختلاف الألسنة، لتعرفى ماذا أعنى بمعارف الأميين. (4) مرة أخرى أذكّرك لماذا أتحدث عن هذه المواضيع. ليس هذا تصديقا للأخبار ولا تكذيبا لها. هذه أخبار دين، وتلك لا تخضع للتصديق والتكذيب، وإنما للإيمان بها أو نكرانها. الحقيقة الثابتة أن الأخبار كانت شائعة قبل اليهودية. ربما -ربما- لوجود أديان سماوية قبل اليهودية لم نعرف بها، أو ربما لأن العقل البشرى وحده كان قادرا فى هذه الحقبة البعيدة من الحضارة على الوصول إلى هذا التفكير. إنما الغرض الوحيد لهذه المقالات هو رصد الأثر الرهييييب للكتابة. فالكتابة (التدوين) حولت هذه المعارف التى اندثر أمثالها إلى معرفة خالدة. وكون هذه المعارف كانت منتشرة بين الأميين، الشفاهيين، الذين ليس لهم إلا التلقين وسيلة للتعلم، لذلك كانوا أكثر تقبلا لها حين تأتى إليهم فى كتاب مقدس. وظلوا يستعيدونها جيلا بعد جيل. وأحيانا يؤمنون بها بحرفية تجعلهم يعادون العلوم الحديثة المعاصرة لهم من أجلها. ثم إنها استُغلت سياسيا إلى أبعد مدى. على نطاق ضيق فى البداية، لخدمة اليهود مقابل جيرانهم «الأميين» (وهذا مقال غد)، ثم على نطاق أوسع، إما: 1- لخدمة الأميين ضد «ظلم النخبة» وضد «المتعلمين» وضد «العلم» فى المجتمعات التى عرفت التقدم (هذا مقال بعد غد). وإما 2- لتزكية أرواح الأميين ونقلهم إلى مرحلة الكتابية والحضارة (كما حدث فى قصة موسى ثم مع الإسلام فى أول عهده قبل أن تنقلب المعارف إلى محاربة العلم إبان نشأة «الحضر» الإسلامى). وهذا أيضا مقال له دوره فى الصف.