دراستى المحدودة للفلسفة، كورس لمدة سنة عن الملامح الرئيسية لأعظم الفلاسفة الذين عاشوا على الأرض، وكورس لمدة ثلاثة أشهر عن «فلسفة العقل». فهمت منها -وقد أكون مخطئا- أن الفلسفة الغربية كلها تنطلق من منبعين أساسيين، وتتبع خَطّين رئيسيين، ثم لكل عظيم من الفلاسفة طريقه. الخط الأول يمتد من أفلاطون. وهذا الخط يعتمد على النظر العقلى فى الأفكار ومن ثم الحكم عليها بالتفكير السليم. هؤلاء العقلانيون يضعون الحكمة والقدرة على النظر العقلانى فى مرتبة تسبق التجربة. من أبرز التلاميذ -وقد أكون مخطئا- رينيه ديكارت. أما الخط الثانى فيمتد من أرسطو (طاليس) ويزدهر عند هيوم وغيره من أعمدة الفلسفة التجريبية (وإلى هؤلاء أضم إسحق نيوتن أيضا)، هؤلاء ينطلقون من النظر فى ما يعرض لهم من أمور -عظمت أو صغرت- من أكثر من ناحية، واختبارها فى الواقع العملى، ويخرجون منها بفهم، ثم ينطلقون بهذا الفهم من الضيق إلى الواسع. أتباع المنهج القطبانى، الذى يسميه بكل صلف المنهج القرآنى، يؤمنون بوحدة مصدر الحقيقة، وبأن «منطق» هذه الحقيقة أكبر من قدرة الناس على الاستيعاب، لذلك لا بد من تربية الناس شعوريا حتى يكونوا مستعدين لقبول «أوامر الله» والخضوع لها. الإقناع بالجدل غير وارد هنا، رغم الآيات التى تحض عليه، بالنسبة إليهم، لا بد للمولودين مسلمين أن يقبلوا بكل شىء، بالدليل النقلى، لا الجدل حول الحكمة. جملة تفصيلية لعبارة مشهورة اسمها «غسيل العقل». الفلاسفة يريدونك أن تبنى معارفكِ وأنتِ واعية، وأن لا تخضعى لما أُملِىَ عليكِ وأنتِ صغيرة، فى وقت لم تكونى فيه تعقلين ولا تستطيعين أن تميزى بين المعقول واللا معقول. فى وقت لم تكونى فيه تمانعين من الإيمان بأن «جنية الحكايات» ستأتى وتأخذ سنك المخلوع من تحت الوسادة وتترك لك نقودا، وأن «بابا نويل» سيترك لك هداياه فى جورب، وبأن أبا رِجل مسلوخة سيظهر لكِ إن أخطأتِ، وأن الشمامة ستشمك إن لم تغسلى قدميك قبل النوم. حين تكبرين تتخلصين من هذا بسهولة، لكنك لا تستطيعين أن تتخلصى من حكايات فارغة حشوا رأسك بها باسم الدين، وأضفوا عليها قداسة باسم الدين، ولا تستطيعين أن تناقشيها نقاشا عقليا محترما، فالمستفيدون من إخافتك يرفعون فى وجهك شعار «الإيمان بالغيب»، وتحته يضعون ما يريدون. أى أن «الإيمان» يُستخدم ل«الإقناع» (يسمونه إقناعًا)، بدل أن يُستخدم الإقناع للوصول إلى الإيمان. تتخلصين من حكايات أبى رجل مسلوخة، لكنك لا تتخلصين من منطق فعل الشىء خوفا من العقاب، أو خوفا من اتهامك بعدم الإيمان (وبالتالى العقاب دنيا وآخرة)، لا اقتناعا بحكمته. والإقناع لا يكون إلا بالحوار الحر، إلا بتقييم الآراء المختلفة حول الموضوع على قدم المساواة، وليس إسباغ قداسة على رأى طرف، والتحقير الاستباقى لرأى الطرف الآخر. كما أن العدالة تقتضى أن يكون الحوار الذى يُقدَّم لكِ -إن لم تكونى مشارِكة فيه- حوارا ذكيا يبهرك طرفاه، أو أطرافه، بذكائهم وقدرتهم على النظر إلى جوانب مختلفة ومتنوعة من الموضوع. لا حوارا مصطنعا مع منافس غبى واضح الغباء سرعان ما يُسقَط فى يده، ويُبهَت، ولا يحرى جوابا. الحوار الذكى هو ما تخيله وصاغه المعلم الأكبر، أرسطو (طاليس)، بكتابة ولا أجمل، اعتبرها الفيلسوف والخطيب المفوه سيسيرو «نهرًا من ذهب». فنقلها، وقدمها إلى قومه الرومان، أعداء الإغريق اللدودين. ونقلها أيضا المسلمون. فى الحقيقة فإن القليل الباقى من كتابات أرسطو، نحو الثُّلث، يرجع الفضل فى بقاء كثير منه إلى المسلمين الذين نقلوه إلى العربية وقت الظلام الأوروبى، ثم نقله الأوروبيون من العربية إلى اللغات الأوروبية، ومنه استفاد «توماس الإقوينى»، أحد السابقين فى تجديد الفكر الأوروبى قبل عصر النهضة. من حسن حظ البشرية كلها، لا المسلمون فقط، أن قطب وأزلامه من الإسلامجية الحاليين لم يكونوا موجودين وقتها. إذن لما شهدنا ابن رشد وابن سينا والفارابى والكندى. هؤلاء الذين تعارفوا على تسمية أرسطو (طاليس) «المعلم الأول». حين يتحدث أزلام سيد قطب من الإسلامجية الحاليين عن «فترة ازدهار» التاريخ الإسلامى ويضربون لك مثلا بالأسماء العظيمة التى أوردتها أعلاه لا تصدقيهم إذن. هؤلاء خط آخر تماما فى تاريخ الحضارة الإسلامية. هؤلاء هم الخط المنفتح من الحضارة الإسلامية، وهم قلة قليلة تُعَدّ على أصابع اليدين، كما أن المنفتحين حاليا -للأسف- قلة لا تُرى بالعين المجردة. أما خط سيد قطب وتابعيه محدودى الأفق فيقودنا إلى أجدادهم، الذين انتقدوا هؤلاء المفكرين العظماء واتهموهم بنفس تهمة قطب الغبية: تشويه الإسلام بنقل الفلسفات الإغريقية، وهو ما انتهى بحرق كتبهم، ونفيهم، واتهامهم فى دينهم، وتكفيرهم (فقط جَوْجلى المعلومة، وانظرى الفتاوى فى حق هؤلاء الأربعة الكبار ثم راجعى -من فضلك- مقالى المعنون «الإسلامجى المِكس.. كل حاجة والعكس»). الخط التكفيرى الذى عارض الانفتاح هو ما يمثله الإسلامجية المعاصرون تحت لواء قطب. فلا تنخدعى.