فى فصل طبيعة المنهج القرآنى، يعرض سيد قطب رؤيته لطريقة تمكين الإسلام فى الأرض. وهى -من وجهة نظره- تستلهم طريقة النبى فى التمكين. فى فترة الدعوة المكية تأكيد على ثوابت العقيدة والأخلاق الحميدة. ثم فى ظل مجتمع المدينة ذى السلطة المسلمة تشريعات ونظم. يعتبر سيد قطب أن الاقتداء بسنة النبى يقتضى فعل نفس الشىء، التركيز على أمور العقيدة، ورفض الخوض فى «البرنامج» على الناس حتى تكون السلطة للإسلام. وهذا نص ما يقول: «والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات وأن يصوغ قوالب نظام، وأن يصوغ تشريعات للحياة... بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها، ورفض كل شريعة سواها، مع تملكه السلطة التى تفرض هذا وتنفذه... الذين يريدون من الإسلام هذا، لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل فى الحياة... كما يريد له الله». هل أدركت خطورة هذا التصور؟ هل أدركت السم المتخفى خلف البلاغة، والعبارات القصيرة، ذات الجرس الموسيقى؟ اقرئيها مرة أخرى واسألى نفسك عن الحلقة المفقودة ها هنا. نعم. كيف سيصل الإسلام فى وقتنا الحالى إلى السلطة إذن؟ إن لم يكن سيعرض على الناس النظم والتشريعات فى نسختها المناسبة لزمنهم؟ هل يريد الله للدين أن يتسلط على الناس أولا بالسلاح، ثم يعرض عليهم الشرائع؟! وأى وسيلة غير السلاح إن كان هناك سلطة قائمة بالفعل فى كل بلد إسلامى! بالديمقراطية؟ الديمقراطية ترتكز على عرض نظرياتك وتشريعات ورؤيتك على الناخبين لكى يختاروا عن بينة، فإن أعجبتهم اختاروك، وإن لم تعجبهم اختاروا غيرك. هكذا يفعل العاقلون. بينما أنت تتخيل أنهم لا بد أن يختاروك لأنك الإسلام، ثم بعد ذلك تعرض عليهم التشريعات السياسية والنظم. ذلك ما ظنَّه قسم ممن تربوا على كتب سيد قطب، وهذا ما فعلوه. دعوة إلى الله تستمر سنوات ثم سرعان ما تتحول إلى محاولة وثب على السلطة باستخدام السلاح. أما الطائفة الأخرى من تلاميذ قطب، الطائفة التى ترتدى بدلا وكرافتات، الذين أسقطوا خيار السلاح، فما فهموه خطير أيضا. فهموا أن الدعوة إلى الله وسيلة لجذب الأتباع، لجذب أصوات الناخبين الذين سينتصرون، عبر صناديق الانتخابات، لمن رسخ عندهم العقيدة، دون أن يسألوه عن تفاصيل برامج ولا تشريعات. هو يهديهم لربنا وهم معاه، شمال شمال، يمين يمين. حتى إن كان فقهه فى الدين لا يمتد إلى فقه فى أمور الحياة. بنفس هذا المنطق كان الإخوان قادرين على حشد عشرات الآلاف، احتجاجا على كتاب رأوه «ضد العقيدة»، بينما لا يخرجون بنصف هذه القوة ولا ربعها فى مظاهرات الإصلاح السياسى، والدفاع عن حقوق الفقراء، مطالبين بمطالب محددة وواضحة. إنهم يفضلون أن تظل العلاقة بينهم وبين المواطن البسيط علاقة المحسن وطالب العون (بمختلف أشكاله)، لا علاقة رفيق الكفاح السياسى الذى أناقشه فى ما لدىّ من خطط، وأجتهد لكى يفهم قبل أن يختار. لاحظى عنوان الفصل الذى يجزم فيه الكاتب بأن هذا هو المنهج الربانى، وليست مجرد رؤية سيد قطب له. لم يقل أعتقد، أو من وجهة نظرى. لم يفترض مرة واحدة أنه ربما يكون مخطئا. لا، بل نسب رؤيته إلى السماء لا أقل. هذا الخلط القاصر بين الدعوى والسياسى، بين السماوى والأرضى، من قبل مفكرين محدودى الأفق كسيد قطب، بالإضافة إلى اكتساب هرائهم الفكرى نوعا من القداسة لانتسابه إلى الدين، أنتجا هذا المسخ الحضارى الذى نعيش فيه. نكافح من أجل حريتنا فى أن نختار، وحين نعتقد أننا أدركناها يخرج لنا من يروج للخيارات السياسية التى تحملك إلى الجنة وتلك التى تنصر الإسلام. وغاب الخطاب العقلانى المتعلق بالأمور اليومية. وأرد هذا كله فى الأخير إلى النظرة الاستعلائية للإسلامجية، وقطب نموذجها الأبرز، تلك التى تعتقد أن الإسلام «السياسى»، كونه ينتسب إلى الإسلام، فهو فوق المنافسة، إذ المنافسة لا تكون إلا بين أنداد، وهو حصل على الصك من الله. الإسلامجى فى نظره يقف بين الناس فى واحد من حالين: إما المعلم الذى يهديهم إلى الله، وإما الحاكم الذى يفتح صندوق المفاجآت لكى يفاجئ جمهوره (أى والله جمهوره) بما لديه من خطط وبرامج وتشريعات، ويقول إنها ما أراده الله. كتابه بحق «معالم فى الطريق» إلى التخلف. وأهو كله بالحب.