حتى لو كنتِ مؤمنة بأن الملائكة سيقاتلون إلى جانبكِ، فأنتِ لا تعرفين كم ملكًا سيفعل هذا، وهل سيتكفلون بخط بارليف، أم بتأمين غرب القناة، أم ماذا. بعبارة أخرى: لا يمكن التعويل على الغيبيات ولا يمكن إدخالها فى الخطة. «التفكير الغيبى» ليس مرادفا ل«الإيمان بالغيبيات». التفكير الغيبى نمط فى تفسير الأمور وتحليلها، لا يرتكز على معطيات واقعية، إنما يرجع الأمر دائما إلى قوة تتجاوز إدراكنا الحسى، من أول «ربنا عايز كده»، إلى «تلاقيه يا اختى مربوط». المشكلة أن بين هاتين العبارتين حبلا مكدسا بالعُقَد، وحياة مزدحمة مكدسة باللا مرئيات، ومستودعا لأربعة عشر قرنا من الجدل، ومن الموروثات، ومن الحِكَم ومن الخزعبلات. أما أخطر ما فيه فهو التلقين. والكارثة الكارثة، أن هذا الركام محاط بالقداسة، وأنه يُعامَل على أنه كنزنا الذى لم نستفد منه بعدُ الاستفادة المثلى، وأننا إذا فتحناه سنغرق فى النعيم. حول هذا الركام المقدس وقف رجال غلاظ القلوب، خفاف العقول. يرفعون السيف فى وجه من يحاول أن يصرخ فى أهل المدينة أنهم عرايا، ورثاث، ويعيشون تحت ظروف لا آدمية. يرفعون السيوف فى وجه من يطلب من أهل المدينة أن يلتفتوا، فقط يلتفتوا، إلى جهة أخرى، ويقارنوا. صف آخر من غلاظ القلوب خفاف العقول موليًّا وجهه نحو الركام، يُجلِس من يحاول من أهله أن يرفع رأسه و«يَطَّلِع». خفاف العقول يحاولون إقناعك أن المسبحة موصولة من «الرب» إلى «الربط»، وأن عدم تقبلك لأى من «خرزها» يعنى انفراط العقد كله. ابتزاز دينى شائع. لكنه، للأسف، ما يفعله التفكير الدينى الغيبى فى عقول الناس، وفى عقول الأمم، وهذا مكمن الخطورة. حين نقول هذا يخرج لنا من يتساءل: «وهل نهى الإسلام عن العلم؟ لقد أمرنا بتقصى العلم»، والحقيقة أن من الصعب جدا على أى دعوة إلهية أو بشرية أن تحقر العلم، والإسلام ليس استثناء. فأين المشكلة إذن؟! المشكلة تأتى من «نشر» نمط تفكير لا علمى. أكرر: «نمط تفكير لا علمى». وهو أمر حتمى بالنسبة إلى الإنسان الذى يتخيل نفسه محاطًا فى كل وقت بملائكة، وشياطين، وجن. يسلم على هذا وهو داخل إلى بيته، ويستعيذ من أولئك وهو يجامع زوجته، ويسمِّى لكى يحرم هؤلاء من مشاركته طعامه. من كان هذا تخيله عن العالم الذى يعيش فيه، هل يفكر فى تحدى الأسرار؟! إن العلم كفلسفة هو تحدى الأسرار. هو البحث عن الأسباب المنطقية لحدوث الظواهر. وهو استخدام المعرفة التى كانت محجوبة فى تطبيقات تخدم الإنسان. ولاحظى أن الإنسان بالفطرة يسأل، ويُلِحّ فى السؤال. «ويسألونك عن الروح.» والإجابة: «قل الروح من أمر ربى» «ويسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها»؟، والإجابة: «إلى ربك منتهاها» «سيقول السفهاء من الناس ما ولّاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها»؟، والإجابة: «قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم». أى أن السماء لا تجيب عن حيرة الإنسان إجابات شافية. أحيانا تحيل الموضوع إلى بند «السرى للغاية»، وأحيانا ب«الترفع عن الإجابة» تسفيهًا للسؤال، وأصحابه. المشكلة هنا أن صاحبة التفكير الدينى تتعود على هذا النمط من الإجابة، تتعود على القبول بعدم وجود تفسير، أو بوجود تفسير «مايخصهاش»، مما يؤثر على منطقها حتى فى الأمور الأبسط من ذلك كثيرا. فهى، مثلا، ترد تخلفنا إلى «الابتعاد عن الله»، ثم إنها لا تعرف لتقدم أوروبا، البعيدة عن الله، سببا سوى أن «الله أعطاهم الدنيا وأعطانا الآخرة». تستخدم المنطق وعكسه بكل راحة ضمير، وبكل «ثُبات عقلى شتوى وصيفى». وهذا لازمة من لوازم التفكير الغيبى. كونه متعلقا بأمور غائبة عن إدراكنا فإن الشىء وعكسه فيه جائز جدا جدا.. وصاحبة التفكير الغيبى تحل مشكلاتها حلولا غيبية أيضا: هذا البيت (المتجر) قليل الرزق.. شغّلوا فيه قرآن. المطر شحيح هذا العام.. فلنصلِّ صلاة الاستسقاء. وصاحبة التفكير الغيبى تذهب بزوجها إلى المشايخ أو القساوسة علشان تفك «ربطه»، فى حين أن العلم حين كان عاجزا عن حل المشكلة لم يبع للناس الوهم، وحين استطاع حلها طرح الحل فى الصيدليات، ومعه ورقة تبين لك التركيب، والآثار الجانبية، والجرعة، وكيفية العمل.. إلخ. لأنه يتعامل معكِ كعاقلة. قولى نفس الشىء عن الهلاوس السمعية والبصرية. قولى نفس الشىء عن التخطيط للمعارك. وإخواننا فى جماعة أنصار السنة واجهوا وزير الداخلية السابق زكى بدر بتسليط الجن عليه، لكن الجن المسلط عاد إليهم قائلا إنه فوجئ بأربعة «مردة» يحمونه (هذه قصة واقعية كنت شاهدا عليها). وقولى نفس الشىء عن الحج المتكرر المتعدد لشعب فقير. أخبرنى صديق عن مريضة بالكبد جمعت أموال العلاج وسافرت بها إلى مكة، حجّت وشربت من ماء زمزم، كانت واثقة من أنها إن شربت منه ستُشفَى لأن «ماء زمزم لما شُرِب له». الله يرحمها كان تفكيرها غيبيا صِرفًا.