فى لحظات السيولة السياسية العالية، ومصر تمر اليوم وقبل ساعات من إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية بواحدة من هذه اللحظات، لا يملك السياسى الحريص على مصلحة وطنه أن يصمت خوفاً من كلفة تبنى موقف واضح أو أن يتحايل على مسئوليته فى الانتصار للصالح العام بدافع الحسابات الضيقة والمصالح الذاتية (انتخابية كانت أو سياسية). بالقطع يختلف السياسيون والشخصيات العامة فى فهمهم للمصلحة الوطنية وتقديرهم لكيفية التعامل الأمثل مع تحديات السياسة ومن ثم تتفاوت مواقفهم، وهذا هو جوهر التعددية والممارسة الديمقراطية وينبغى أن نتعلم تقبله دون مزايدة أو تخوين. إلا أن التخاذل عن إعلان الموقف والامتناع عن التواصل مع الرأى العام بمضامين واضحة هما صنو تخلّ خطير عن المسئولية والتاريخ، فى الأغلب الأعم، لا يغفر هذا أبداً. الميدان وما حوله: ما يرفع بميادين تحرير مصر من مطالب تتعلق برفض التحايل على تسليم السلطة للمدنيين المنتخبين ورفض الإعلان الدستورى المكمل ورفض الإجراءات الاستثنائية المتمثلة فى الضبطية القضائية لجهات عسكرية إزاء المدنيين هى مطالب وطنية جامعة أو على الأقل هى كذلك لكل مؤمن بالديمقراطية والمدنية ولكل راغب فى إنهاء عسكرة الدولة المصرية وإخراج المجلس العسكرى من المشهد السياسى، وهذا هو مكانى الطبيعى والفكرى والسياسى. نعم على «العسكرى» ترك السياسة وتقبل إعادة تعريف مكانه فى الدولة كمؤسسة احترافية لا انحيازات سياسية والتسليم بأحقية المدنيين المنتخبين فى إدارة شئون البلاد ومن ثم التسليم الفعلى للسلطة. ابتعدت عن الميدان خلال الأيام الماضية ليس تحفظاً على المطالب الوطنية الجامعة، بل رفضا لأن توظف لأغراض ذات صلة بانتخابات رئاسية لم تعلن نتائجها بعد أو أن يساوم بها وعليها فى صراع حول أحكام قضائية ملزمة (الحكم بعدم دستورية قانون انتخابات مجلس الشعب الذى أرفض المساومة عليه وأمام من يرفضه سبيل وحيد هو استنفاد الطرق القانونية المتاحة). قناعتى أيضاً أن الميدان تغيب عنه، أو تتردد فقط بخفوت بين جنباته، مجموعة أخرى من المطالب الوطنية الحيوية وهى إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور على نحو متوازن، والتوافق بشأن دستور جديد يضمن المواطنة ومدنية الدولة وحكم القانون، وتوافق الجماعة الوطنية المصرية على إدارة ديمقراطية للشأن العام والسياسى من قبل السلطة التنفيذية القادمة بحيث ننجو بمصر وبوسائل سلمية من خطر إعادة إنتاج نظام الاستبداد القديم وخطر هيمنة فصيل واحد. يحتاج الميدان لأن ينفتح على هذه المطالب أيضاً ويدافع عنها دون مساومة ودون ضمانات شكلية ومرسلة لا أهمية حقيقية لها. الرئاسة وما حولها: كنت من بين المبطلين لأصواتهم فى جولة الإعادة الرئاسية ولم أدعم لا علناً ولا سراً مرشحاً وحددت مكانى فى معارضة ديمقراطية وتيار وطنى مدنى يريد الانتصار لأهداف الثورة المصرية والعمل على إنجاز مصالحة وطنية حقيقية فى مجتمع بدأت أركانه وأركان دولته فى التصدع. استمر رفضى للمرشحين خلال الأيام الماضية التى انتظرنا بها الإعلان عن نتائج الانتخابات من قبل اللجنة العليا وعانينا بها من جراء ممارسات إعلامية غير مقبولة من جانب حملتى المرشحين بسعيهما لاستباق الإعلان الرسمى للنتائج. بغض النظر عن هوية الفائز بالرئاسة، علينا جميعاً، طالما تثبتنا من نزاهة العملية الانتخابية وأعلنت اللجنة العليا عن النتائج بشفافية كاملة تزيل الشكوك، أن نحترم شرعية الصندوق ولا نجادل بشأنها ونتعامل مع تداعياتها السياسية والمجتمعية بكافة الوسائل السلمية المتاحة انتصاراً للديمقراطية والمدنية. أسجل أيضاً أن رفضى لدعم مرشح الإخوان فى الرئاسة، لم يكن له أن يعنى رفض مطالب وطنية ترفعها الجماعة وقوى وطنية أخرى فى لحظة حاسمة فى تحول مصر الديمقراطى. وأن الصراع على السلطة بين الإخوان و«العسكرى» لم يكن له أن يعنى تجاهل الصراع الحاكم بين قطاع واسع من المصريات والمصريين، أنا بينهم، والمجلس العسكرى بشأن تسليم السلطة والديمقراطية. إن جاء مرسى رئيساً سأكون فى معارضة ديمقراطية ترفض وتتعاون وتنقد وتقوم وتسعى لمنع هيمنة الإسلاميين بمفردهم على السياسة. إلا أن تخوفى من هيمنة الإسلاميين لم ولن يدفعنى للتخلى عن المطالب الديمقراطية والمناداة بتسليم السلطة للمدنيين المنتخبين. رفضى لدعم مرشح الإخوان فى الرئاسة لم يكن على الإطلاق تأييداً للمرشح أحمد شفيق ولا لما يمثله من مصالح وانحيازات تتعارض بوضوح مع أهداف الثورة. إلا أن تجاهل أصوات المصريات والمصريين الذين ساندوه انتخابياً، وفى مشهد انتخابى ستكون نتيجته حتماً فائز ب51 أو 52 بالمائة وخاسر ب 48 أو 49 بالمائة ومن ثم فى مجتمع منقسم سياسياً، غير مقبول. فهؤلاء لا ينبغى على الإطلاق انتصاراً للديمقراطية المنازعة فى أهليتهم وحريتهم فى اختيار شفيق وتفضيله كرئيس للبلاد. وهم يحتاجون لتطمينات وضمانات ومصالحة وطنية يقوم بها مرشح الإخوان إن فاز، ويحتاجون لتيار وطنى يعبر عنهم وعن أهدافهم ومخاوفهم بعيداً عن الوقوع فى شرك إحياء النظام القديم. وإن جاء شفيق رئيساً، فلا بديل للمؤمنين بالديمقراطية عن المعارضة وبكافة الوسائل السلمية ولا بديل عن مواجهة خطرى استمرار عسكرة الدولة وعودة الاستبداد القديم بوجوه جديدة.