■ بقلم: مها متبولي لم تكن منى زكي حين قبلت تجسيد شخصية «كوكب الشرق» أم كلثوم فى فيلم «الست» تدرك أنها تسير نحو فخ فنى محكم. فالفيلم، كما خرج إلى النور، لم يكن إضافة لمسيرتها، بل تحوّل إلى عبء ثقيل عليها، وأطلق موجة عاتية من الانتقادات، لا بسبب قصور فى موهبتها، وإنما لأن العمل نفسه جاء مرتبكًا ومسيئًا قبل أن يكون ضعيفًا. ولولا معرفتى المسبقة بمنى زكى، وإدراكى التام لقدراتها كممثلة موهوبة وقادرة على التلوّن والأداء المركّب، لما أيقنت أن الظلم الأكبر وقع عليها حين تصدّرت واجهة هذا الفيلم، فهى فى تقديرى ليست مسئولة عن الإخفاقات الجوهرية، إذ وُضعت فى دور شديد التعقيد، لا يتناسب مع طبيعة أدائها ولا مع «طبقتها التمثيلية» بلغة الموسيقيين، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بشخصية أيقونية بحجم أم كلثوم. وجاء الماكياج ليعمّق الأزمة بدل أن يحلّها، فخلق حاجزًا بصريًا ونفسيًا بينها وبين الشخصية، وخلّف حالة واضحة من «النشاز الفنى»، بلغت حد تجميد ملامح الوجه، خاصة فى المراحل العمرية المتقدمة من حياة أم كلثوم فى الجزء الثانى من الفيلم. هذا الجمود حرم منى زكى من المساحة الطبيعية للتعبير، وقيّد أداءها، فانعكس سلبًا على الانسيابية والصدق التمثيلى. وتفاقم الارتباك مع القفز بين فترات زمنية متعددة من حياة «كوكب الشرق»، وما صاحب ذلك من تغيّرات شكلية وأدائية، جعلت شريحة واسعة من الجمهور تشعر بأن من على الشاشة ليست «ثومة» التى يعرفونها، بل نسخة مشوشة منها. فالفجوة بدت صارخة بين تلقائية أم كلثوم الحقيقية، وخفة ظلها، وسرعة بديهتها، وبين الشخصية التى قدمتها منى زكى، خاصة فى مشاهد الجزء الثانى، حيث طغى «الوجه الخشبى»، وطريقة الكلام السوقية، والشفاه الممطوطة، وحركات الرأس والحواجب المبالغ فيها، فى تناقض فادح مع مئات التسجيلات المصوّرة المتاحة لأم كلثوم. وكان الأجدر من وجهة نظرى أن تقتصر منى زكى على تجسيد أم كلثوم فى مراحلها العمرية المبكرة، بدقة أكبر، مع الاستعانة بممثلة أخرى لتجسيد مراحل الكبر، بما يراعى التوافق الشكلى والعمرى، بدل تحميل ممثلة واحدة عبئًا تمثيليًا وشكليًا يفوق المنطق. ولا يقتصر الظلم على منى زكى وحدها، بل امتد إلى المخرج مروان حامد، وهو مخرج يمتلك أدوات سينمائية حقيقية، ويُحسب له سعيه الدائم إلى تقديم سينما مصرية مختلفة، تتجاوز النمط التقليدى. ويُسجل للفيلم بصريًا تقديم رؤية مشبعة بروح «النوستالجيا»، تستحضر زمن الفن الجميل وتخاطب وجدان المشاهد من حيث الشكل. غير أن الأزمة الحقيقية للفيلم تكمن فى الكتابة. فالسيناريو يعانى تفككًا واضحًا، إذ تمزقت الحبكة إلى شذرات متناثرة بلا خط درامى ثابت أو نسيج محكم. وبدل أن تتكامل العناصر، تأرجح العمل بين تناقضات حادة ومواقف غير متسقة، أفقدته التماسك وأضعفت تأثيره. ومن أبرز هذه التناقضات حضور أغانى أم كلثوم داخل الفيلم، وتوظيفها دراميًا بشكل يبدو – ظاهريًا – منسجمًا مع الأحداث، بينما الصوت المستخدم ليس صوت «كوكب الشرق»، بل صوت نسمة محجوب، بكل ما يحمله من اختلاف واضح وتفاوت لا يمكن تجاهله مقارنة بالبصمة الصوتية المتفردة لأم كلثوم. الأخطر أن الفيلم يمر دون أن يقدّم رؤية فكرية واضحة أو موقفًا محددًا، فالشكل حاضر بقوة، بينما يغيب المضمون، وتضيع روح أم كلثوم، ولا يتبقى سوى تقنية عالية وإنتاج سخى، بلا هوية ولا قيمة فكرية حقيقية. ومن يشاهد الفيلم يكتشف سريعًا أنه لا يرقى إلى كونه سيرة ذاتية، ولا حتى مسيرة فنية، بل كتابة انتقائية مشوهة، تتعمد التقاط لحظات الضعف والانكسار، وتُلصق بالشخصية صفات لا تمت إليها بصلة، فى طرح يفتقر إلى حسن النية. ويتجلى ذلك فى مشاهد صادمة، من بينها تصوير أم كلثوم وكأنها حصلت على منصب نقيب الموسيقيين عبر الرشاوى والتهديد بحرمان معارضيها من العمل، فضلًا عن مشهد يوحى بأن أفراد أسرتها يخافون منها ويتجنبونها، إلى جانب تصويرها كامرأة وحيدة منعزلة، فى تناقض صارخ مع واقع معروف، إذ كانت تقدم حفلات شهرية تتطلب عشرات اللقاءات والبروفات مع شعراء وملحنين وموسيقيين. فمن أين جاءت هذه الوحدة المصطنعة؟ ما يقدمه الفيلم فى مجمله هو سيل من المغالطات، ومزيج خطير من «دس السم فى العسل»، وهى خيانة لا يمكن تبريرها فنيًا. والسبب فى تقديرى يعود إلى اختراق منظومة السينما المصرية عبر إنتاج خارجى غير مصرى، يفرض أجندته وشروطه، ويملى توجهاته، حتى وإن جاء ذلك على حساب الاتساق الفنى وتشويه الرموز. وفيلم «الست» ليس بعيدًا عن هذه الأجندة، التى تفسر حجم الأخطاء المرتكبة لإرضاء الممول، بلا أى اعتبار للقيمة الفنية أو الأخلاقية.