أحمد أسامة تتضمن رواية «الحياة ليست رواية» للكاتب والناقد اللبنانى عبده وازن، الصادرة عن منشورات المتوسط، لعبة فنية ذكية ومراوغة تبدأ اللعبة من العنوان نفسه أن يستهل ناقد مخضرم قضى حياته يقرأ ويحلل آلاف الروايات، عمله الروائى بجملة تنفى ما يفترض أن يقدمه، فهذا بحد ذاته «لغز» مقصود. هذا «الخداع» اللطيف ليس إلا دعوة من الكاتب للتفاعل مع النص بإثارة أكبر إنه تحدٍ صريح لتوقعات القارئ، ليضمن صحبته فى رحلة لاستكشاف الحدود الهشة بين الواقع الذى نعيشه والخيال الذى نقرأه. يفرض هذا الواقع على أبطاله أن يعيدوا فهم معنى الفقد والصدمة ونلحظ أن هذا النهج هو وعى ذاتى متضمن فى السرد نفسه، بما يحدد دور القارئ كشريك فى مساءلة حدود الفن. تركز الرواية على مفاهيم مجردة مثل: الحب المستحيل، والغيرة الصامتة، وقوة القراءة، كفعل وجودى، وتبرزها كسبل للمواجهة الموجعة مع واقع مؤلم. على مدار السرد، يظل التساؤل الوجودى محورياً، تتردد أصداؤه فى الأرجاء: هل يمكن للقراءة أن تَقى من الفقد؟ سؤال يلخص جوهر صراع الأفراد بين هشاشة الحياة التى يعيشونها، وبين صلابة النصوص التى يلجؤون إليها المؤلف لا يقدم إجابة جاهزة، بل يطرح رهاناً أكبر: أن الكتابة، التى هى الوجه الآخر للقراءة، قد تكون هى العزاء الداخلى الوحيد. أشباح بيروت ومثلث الغياب إن تميز الرواية وعمقها يأتيان من بنيتها الدرامية التى تستند إلى ثلاثة خطوط رئيسية، أو بالأحرى، ثلاثة مصائر تتشابك ببراعة: خط يمثله «القارئ»، وخط آخر ل «جوسلين»، وأخيراً خط «جوزف». «القارئ» ليس مجرد بطل مركزى، بل هو شخص بلا اسم آخر هويته الوحيدة، كما يصر هو، أنه «قارئ» وهنا يكمن جوهر اللعبة؛ «القارئ» ليس هاوياً، بل هو «مجنون قراءة»، هويته محيت تماماً ليُعاد تشكيلها فقط من النصوص التى يقرأها. القراءة بالنسبة له ليست هواية كما يظن صديقه «جوزف»، بل هى مهنة وطقس يشبه «القُدّاس»، وفعل وجودى يعيد به صياغة العالم ويحتمى به من رخاوة هذا العالم الضيق. يجد هذا «القارئ» نفسه فى قلب «علاقة ثلاثية مريبة»؛ فهو يحب «جوسلين» حباً صامتاً، ومن طرف واحد «جوسلين»، الشابة الفرنسية ذات الأصول اللبنانية، لا تبادل «القارئ» هذا الحب إنها غارقة فى حب «جوزف» حباً خالصاً وجنونياً. أما «جوزف»، الصديق الأقرب ل «القارئ»، فهو يبادل «جوسلين» الحب، ولكن أقل مما أحبته هى، مما يعمق المأساة الصامتة ثم يقع الحدث المفصلى: يتعرض «جوزف» لحادث مروع يدخل على إثره فى غيبوبة طويلة، ليصبح جسداً معلقاً بين الحياة والموت. هذه الدراما لا تحدث فى الفراغ، بل تدور أحداثها فى بيروت لا يكتفى وازن بذكر المدينة كخلفية، بل يأخذ القارئ فى جولات بين الأشرفية والجمّيزة وساحة الشهداء بتمثالها المثقوب بالرصاص. هذا التمثال ليس مجرد ديكور، بل هو رمز لصدمة الحرب التى تحمل ندوباً تذكّر بما حدث. إن الشخصيات الثلاث هى نفسها نتاج هذه الصدمة فهم، كما وصفهم الناقد عباس بيضون، شخصيات «استثنائية» لأن بداياتهم «تراجيديا كاملة»: والد «القارئ» قُتل بقذيفة سورية، ووالد جوسلين التى عادت لتبحث عنه قُتل على حاجز أمنى أثناء الحرب، وجوزف نفسه ابن بالتبنى يعيش بهاجس أن أمه «قد تكون عاهرة». إنهم يتامى يعيشون فوق ركام هذا الماضى، وحبهم المشوه والمستحيل هو انعكاس مباشر للمدينة التى لم تُشف بعد. ظل الناقد وبنية «الخلخلة» يبدو «القارئ» فى السياق السردى شخصية غامضة، لكنه فى الحقيقة انعكاس قوى للمؤلف نفسه. إن هذه القراءات الموسوعية والمعرفة العميقة بتاريخ الرواية هى قراءات المؤلف نفسه، وهو فيها طوال الوقت نحن هنا أمام ما يُعرف ب «التخييل الذاتى»، حيث يذوب الخط الفاصل بين سيرة الكاتب الحقيقية وبين الشخصية التى يبدعها. ولا يمكن فهم هذا العمق دون العودة إلى تجربة عبده وازن الشخصية القاسية، التى كتب عنها سابقاً فى سيرته «قلب مفتوح». كتب وازن ذلك النص المؤثر عام 2010 بعد خضوعه لعملية جراحية للقلب تجربة الاقتراب من الموت، والدخول فى غيبوبة التخدير الطبى، وفتح جسده بالمعنى الحرفى، هى التى أيقظت الذاكرة، وفجّرت لديه الكتابة عن الجسد والذاكرة. فى «الحياة ليست رواية»، يتكرر هذا الهاجس غيبوبة جوزف الخيالية هى صدى مباشر لغيبوبة» المؤلف الحقيقية إذا كان قلب مفتوح هو مواجهة مع الجسد المريض، فإن «الحياة ليست رواية» هى مواجهة مع الروح والذاكرة بعد الصدمة. يوظف عبده وازن استراتيجية سردية بنائية لافتة؛ فالرواية تأتى ككتلة واحدة متصلة، بلا فصول تقليدية تقسم النص. هذا ليس مجرد «تيار وعى» بالمعنى التقليدى، بل هو، كما يصفه التحليل النقدى، «خلخلة» متعمدة؛ «خلخلة فى بنية الهوية» (القارئ بلا اسم)، «خلخلة فى الحب» (مثلث غامض غير محسوم)، و«خلخلة فى الزمن» (دوائر الاسترجاع والذاكرة التى ترفض الترتيب). إنه أسلوب يرفض السردية التقليدية، ويعكس بصدق طبيعة الصدمة التى لا تأتى فى فصول مرتبة، بل تظل حاضرة كتيار سفلى جارح لا يتوقف. الكتابة كحداد مؤجل يلفت أيضاً الاستخدام الذكى لتقنية «الميتاسرد» (ما وراء السرد). «القارئ»، الذى أصر طوال 296 صفحة أنه قارئ وليس كاتباً، يقرر أخيراً بعد كل ما مر به أن يكتب رواية عن تجربته هو وجوسلين وجوزف. وهنا نكتشف الدافع الحقيقى؛ الكتابة هنا ليست مشروعاً فنياً بقدر ما هى محاولة لترميم الذات. إنه يكتب لمواجهة الفقد بالصفحة، والغياب بالكلمة؛ يكتب لأنه لا يستطيع البكاء. يلتقى «القارئ» بروائية شابة تدعى «رنا»، ويسلمها مخطوط روايته ليسألها رأيها. فتقترح عليه أن تعرض مخطوطته على «صديق شاعر – روائى يُدعى عبده وازن». هذه النهاية تخلق حلقة مغلقة عبقرية. الرواية التى نقرأها هى نفسها الرواية التى كتبها «القارئ»، والتى سيقرأها «عبده وازن» كشخصية داخلها. بهذا، لا يعود النص رواية تماماً، وليست سيرة تماماً، بل شبه رواية. تتجاوز رواية «الحياة ليست رواية» حدود الحكاية العادية هى لا تقدم فقط دراما إنسانية آسرة، بل تنخرط فى تأمل عميق وغوص فى تعقيدات الذات. ليست الرواية مجرد قصة، بل هى مرآة تعكس السؤال الأبدي: الحياة فوضوية ومؤلمة وليست رواية، لكننا كبشر، نحتاج إلى «الرواية» (الفن) لنتمكن من «إعطاء معنى لما يبدو غير قابل للفهم»، ولنستطيع ترميم ذواتنا المكسورة.