الاقتراب من سيرة أم كلثوم ليس مهمة مأمونة العواقب؛ فالمسافة بينها وبين الكتابة عنها محفوفة بخطر السقوط فى أحد فخّين: تقديس يُفرغها من إنسانيتها، أو تفكيك قاسٍ ينتزعها من رمزيتها. فيلم «الست» للمخرج مروان حامد يختار منذ البداية طريقًا ثالثًا أكثر وعيًا وجرأة؛ لا يتناول سيرة ذاتية تقليدية تُغلق المعنى، ولا أيقونة سينمائية جامدة، بل محاولة جادة للإصغاء إلى المرأة الكامنة خلف الأسطورة، دون ادّعاء امتلاكها. هنا لا نتحدث عن مطربة استثنائية مرّت فى تاريخ الغناء العربي، بل عن ظاهرة ثقافية شكّلت الوجدان العربى لأكثر من نصف قرن صوت تجاوز حضوره الفن إلى السياسة، وتماهى مع التحولات الكبرى للوطن، من الريف إلى المدينة، ومن الملكية إلى الثورة، ومن الحلم القومى إلى لحظة الانكسار لذلك فإن مقاربة سيرتها سينمائيًا لا يُعد فعل توثيق بقدر ما هو فعل قراءة شخصية تشكّلت داخل زمن شديد الاضطراب والثراء معًا. اقر أ أيضًا | جمال بخيت يدافع عن أم كلثوم: كوكب الشرق لم تكن بخيلة وهذه حقائق لا تُنكر من قلب هذه الإشكالية يتشكل وعى العمل بنفسه، ساعيًا إلى شق مسار ثالث شديد الحساسية، يوازن بين تبجيل الرمز والاقتراب الحذر من المرأة، بين الذاكرة الجمعية وهشاشة التجربة الفردية، دون ادعاء امتلاك الحقيقة أو اختزالها فى إجابة جاهزة. لا يطمح الفيلم إلى إعادة إنتاج أم كلثوم كما رسختها المخيلة، ولا ينافس الذاكرة الغنائية المتجذرة فى الوجدان، بل يختار طريقًا أكثر جرأة: لإعادة تسليط الضوء على الإنسانة الكامنة خلف الأسطورة، بكل ما يحمله هذا الاختيار من مسؤولية فنية ومخاطر نقدية. صوت ينهض فوق الجراح لم يتعامل الفيلم مع أم كلثوم باعتبارها سيرة حياة تقليدية ذات مسار خطّى واضح، بل يقدّمها كمشروع صعود إنسانى وثقافى من طفلة ريفية قادمة من السنبلاوين، تنشد التواشيح فى الموالد، وترتدى ملابس الصبي، إلى امرأة تفرض حضورها على بلاط الباشوات، يمتد إلى المجال العام المصرى والعربي هذا الاختيار السردى يبتعد عن الاغراق التوثيقي، ويقترب من الأعماق النفسية والاجتماعية لشخصية صنعت نفسها داخل منظومة ذكورية وطبقية قاسية، ودفعت ثمن الصعود عزلةً ووحدةً وخوفًا دائمًا من السقوط. ينطلق الفيلم من قلب لحظة استثنائية، كواليس حفل مسرح الأوليمبيا» فى باريس، بعد أشهر قليلة من نكسة 67، وفى مناخ سياسى وإنسانى بالغ التوتر اختيار ذكى لا يكتفى باستدعاء ذروة مجد فني، بل يضعنا أمام لحظة وعى تاريخي، كثيف الدلالة؛ رمزية لمسار امرأة صارت صوت أمة تنهض فوق جراحها، تحوّل حضورها على المسرح إلى فعل مقاومة يتجاوز الفن إلى التاريخ. حتى تتويجها بأعلى أجر يُمنح لفنان على هذا المسرح، لم يكن انتصارًا شخصيًا، بل مساهمة واعية موجهة لدعم المجهود الحربي. وفى ذروة هذا الاشتباك، يضعنا الفيلم أمام مواجهة كاشفة حين يعترض مدير المسرح «كوكاتريكس» على الطابع الوطنى لتقديم الوصلة الغنائية، لتأتى إجابتها حاسمة: المناسبة وطنية قبل أن تكون فنية، وتقرر الانسحاب مشهد كاشف لطبيعة فنانة تدرك أن الصوت فى زمن الانكسارات الكبرى يتحول إلى سلاح رمزي، لا يقل أثرًا عن المدافع فى معركة الوعى والكرامة بهذه المشاهد المشحونة يرسم الفيلم معادلًا بصريًا لفكرته الأساسية، معلنًا منذ البداية أنه لا يروى سيرة نجاح، بل حكاية صوت اختار أن يقف فى الصف الأمامى للتاريخ، ظل الأب فى مسرح الأوليمبيا فى اللحظة التى بلغ فيها حضور أم كلثوم ذروته العالمية، يكشف الفيلم عن هشاشة إنسانية مباغتة، حين تسقط أرضًا إثر اندفاع أحد المعجبين لتقبيل قدمها. واقعة تُستثمر دراميًا كنقطة ارتكاز، ينطلق منها السرد فى حركة ارتدادية محسوبة عبر الفلاش باك، عائدًا إلى بدايات الإنشاد الديني، ودور الأب الشيخ البلتاجي، وشقيقها خالد، وصولًا إلى القاهرة «كازينو البسفور»، وما صاحبه من سخرية واختبارات قاسية. قفزات زمنية لتؤكد أن الأسطورة لا تمحو الجذور، والمجد لا يُلغى الإنسان. ومن أبدع الجسور الدرامية التى يشيدها الفيلم، ذلك الربط الوجدانى بين الطفلة التى تستمد شجاعتها من نظرة الأب وسط العاصفة، وحضوره المتخيَّل فى مقاعد «الأوليمبيا». يظل الأب هنا مرجعية الأمان الأولى، يُستدعى فى لحظات الانكسار، فيتحول السقوط من حادث عابر إلى اختبار داخلي، وتغدو العودة إلى الغناء انتصارًا نفسيًا قبل أن يكون فنيًا. رؤية تضع القلب فى الصدارة يضيء الفيلم ملامح منتقاة من عالم أم كلثوم الداخلي: نظرتها للزواج والأمومة، عنادها، ذكائها، أحزانها، علاقتها المتبدلة بالسلطة من فاروق إلى عبد الناصر، صراعها مع المرض حين هدد صوتها وهويتها شخصيات ومحطات بوصفها مناطق ضوء وظل، تتقاطع مع اختياراتها الفنية والإنسانية من هنا يأتى حضور أحمد رامي، والقصبجي، وشريف باشا صبري، والدكتور الحفناوي، ومحمود الشريف، باعتبارهم علاقات شكّلت وجدانها وتركَت أثرها العميق. فى المقابل، يغيب فنانون كان لهم دور حاسم فى صناعة مجدها الغنائي، مثل رياض السنباطى ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، فى اختيار واعٍ يقدّم القلب على السرد التاريخي، دون أن يسقط فى رومانسية سطحية. هنا يغدو الغناء هو العلاقة الأكثر ثباتًا، بينما يظل البشر -مهما اقتربوا- عابرين فى حكاية امرأة آثرت مشروعها الفنى على أى اكتمال عاطفى آخر. بذلك يوضح الفيلم أن اختياراته ليست إقصاءً لقامات فنية بقدر ما هى التزام برؤية ترى فى القلب مركز الحكاية. امرأة دفعت ثمن الكمال من هنا يمكن قراءة صرامة أم كلثوم، فى سياقها الإنساني، انضباطها لم يكن قناعًا، باعتباره ضرورة لبناء مشروع فنى لا يحتمل التراخي قبل أن يكون سمة شخصية مجرّدة؛ ومع تقدّم العمر وتفاقم مرض الغدة، تحولت هذه الصرامة إلى حدّة مفهومة، لا يُدينها الفيلم ولا يُجمّلها، بل يضعها فى إطارها الواقعي، بوصفها ردّ فعل طبيعيًا لإنسانة تقاتل للحفاظ على صوتها وهويتها معًا. هنا لا أجد مبررًا موضوعيًا لموجة الغضب التى أثارتها مشاهد التدخين، وكأننا أمام انتقاص أخلاقى تنتقص من قيمة «الست» أم كلثوم. يبدو لى هذا الجدل انعكاسًا لأزمة فى التلقى أكثر مما هو دفاع عن الرمز؛ فمحاولة تعقيم الشخصية من تناقضاتها لا تصون الأسطورة، بل تفرغها من إنسانيتها اختزال القيمة فى مثل هذه التفاصيل لا يُدين الفيلم بقدر ما يكشف رغبة فى فرض وصاية أخلاقية تُقدّس الرموز، وتستبدل القراءة النقدية بحراسة وهمية على الذاكرة. صراع القلق والمجد قدّم أحمد مراد نصًا يوازن بوعى بين السيرة والتحليل والخيال، جاعلًا من الذاكرة بطلًا خفيًا للسرد. اختار زوايا إنسانية مهملة من حياة أم كلثوم لم يتجرأ كثيرون على الاقتراب منها، ولم يكن البدء بواقعة السقوط المستلهمة من الكاتب محمد سلماوي، مجرد حيلة درامية، بل مدخلًا نفسيًا لعالم امرأة يلاحقها المجد بقدر ما يلاحقها القلق، وتتجاذبها العاطفة والواجب. ويتوقف الفيلم عند واحدة من أكثر اللحظات التاريخية التباسًا فى مسار أم كلثوم، سقوط النظام الملكى وصعود رجال الثورة، وهى مرحلة معقّدة لم تكن «الست» فيها فاعلة سياسية بقدر ما كانت جزءًا من سياق فرض نفسه على الجميع. يلامس الفيلم هذه التحوّلات بحذر واضح، ويشير إليها دون أن يغوص فى تعقيداتها حتى نهايتها. قلب الفيلم النابض لا يمكن الحديث عن فيلم الست دون التوقف أمام المونتاج المبهر الذى أبدعه أحمد حافظ، وجعله قلب العمل النابض، والعصب الذى أمسك ببنائه، فقد نجح فى الإبقاء على إيقاع سريع ومشدود للفيلم الممتد لقرابة ثلاث ساعات، ممسكا بالمتفرج من الدقيقة الأولى حتى النهاية، تنقّلاته زمنية بخفة خيط حرير، وتدفقاته الشعورية تجعل الزمن ذاته مادة درامية فاعلة لا عبئًا سرديًا. ومزج اللقطات الأرشيفية مع نسيج الأحداث الدرامية بسلاسة، جعلت الحدود بين الوثيقة والخيال شبه منعدمة. بصريًا، يقدّم عبد السلام موسى صورة واعية وأنيقة، لا تُزيّن المشهد بقدر ما تفسّره. صورة تمنح الصمت ثقله، وتحمّل كل لقطة بدلالة نفسية من عبق «ثومة». حركة كاميرا، كادرات، وإضاءة تستحضر روح الزمن والمكان، وتعكس التحولات النفسية للشخصية صخب ينافس الصورة موسيقى هشام نزيه تبدو من أكثر عناصر الفيلم إشكالية، لا لغياب الجهد أو الرؤية، بل لفرط الحضور. موسيقى طَموح تجاوزت وظيفة الخلفية، لكنها فى لحظات عدّة أحدثت نوعا من الصخب، وزاحمت الصورة بدل أن تتحاور معها. وتحوّلت فى بعض المواضع إلى حمل درامى فائض عن حده، يُثقل المشهد ويربكه بدل أن يحرّره، وفى عمل يتمحور حول صوت أم كلثوم، تزداد هذه المفارقة حساسية؛ إذ كان الأجدر بالموسيقى أن تكون ظلًا خافتًا للصوت لا ندًّا له. أيقونة تتجاوز الزمن جسدت منى زكى واحدة من أصعب الشخصيات فى تاريخ السينما العربية، لأن الشخصية أيقونة عابرة للأزمنة، وما زالت الذاكرة الجمعية تحفظ أدق تفاصيل حضورها، لذا اختارت الاقتراب من روح «الست» لا استنساخها، وقدّمت أداءً قائمًا على الاقتصاد التعبيرى والانضباط الجسدي. نجحت فى إجمالى الفيلم، وإن شهد أداؤها والمكياج تفاوتًا ملحوظًا فى بعض المشاهد. على المستوى الصوتي، خاضت منى مغامرة شديدة الصعوبة فى الاقتراب من طبقات القرار العميق، التى تطلبت تدريبًا مرهقًا وتحكمًا عاليًا فى التنفس، لتعطى إحساساً بالثبات والقوة والعمق، غير أن أداءها الصوتى جاء متأرجحًا فى اللحظات، ما أثّر أحيانا على الإيهام البصري، رغم حفاظها على روح الشخصية وتوازنها بين الصلابة والهشاشة. الشيخ حارس البدايات جسد سيد رجب شخصية الشيخ البلتاجى بعمق إنسانى لافت، وجاء أداؤه مقتصدًا يعتمد على النظرة ونبرة الصوت، لم يقدمه بطريقة نمطية، بل رسمه كرجل يحمل مزيجًا معقدًا من الإيمان والصرامة والخوف على موهبة ابنته. محاولًا التوازن بين الخشية والضرورة، وفى المسار نفسه، جاء أداء أحمد خالد صالح فى دور الشقيق خالد ليكمّل هذا البناء الأسرى بهدوء لافت، مقدّمًا أخًا يقف على التخوم بين التواطؤ الصامت، والدعم غير المعلن. أسهم الاثنان فى ترسيخ الجذور الأولى لشخصية أم أم كلثوم، قبل أن تصبح «الست»، وقبل أن يتحوّل الصوت إلى أسطورة. حضور لا يُقاس بالزمن جاءت إدارة مروان حامد لكل عناصر الفيلم، من التمثيل إلى الإيقاع، ومن الصورة إلى الموسيقى، بحرفية عالية تقترب من مستوى الإنتاجات العالمية. وظهرت بصمته بوضوح فى إدارة الممثلين، والإمساك بروح المشهد، وبناء جسور ذكية بين الأزمنة. ويُحسب له وعيه الدقيق فى توظيف ضيوف الشرف، الذين لم يُقدَّموا كأسماء لامعة عابرة، بل كعناصر بنائية محدودة الزمن، كثيفة الدلالة، تركت أثرها العميق فى النسيج الدرامي. قدّمت نيللى كريم شخصية الملكة نازلى بحضور آسر، قائم على الاقتصاد والرصانة، مكتفية بإيماءات محسوبة ونظرات تكشف تناقضات امرأة تمارس سلطتها بغيرة مكتومة. وفرض كريم عبد العزيز شخصية شريف باشا صبرى بحضور طاغٍ، منحها ثقلًا دراميًا بوصفها رمزًا للطبقة والسلطة، لا مجرد علاقة عاطفية عابرة فى حياة أم كلثوم. وفى أداء مختلف النبرة، منح أحمد أمين الدكتور الحفناوى رهافة إنسانية توازى مكانته التاريخية، بينما استحضر عمرو سعد هالة عبد الناصر دون الوقوع فى فخ المحاكاة المباشرة. يبلغ الفيلم ذروته الإنسانية والفنية فى مشهد الوداع المهيب: نعشٌ محمول على الأعناق، تحيط به ملايين الوجوه، بينما ينساب صوت الست بأغنية «ألف ليلة وليلة» هذا التوازى الموجع بين الغياب والحضور يصنع أثره العاطفى الجارف، ويكثّف رؤية عملٍ تقف خلفه خمس شركات إنتاج مصرية، وفّرت له تمويلًا سخيًا أتاح خروجه بمستوى سينمائى عالمي. شريط متقن الصنع، مبهر، له جمالياته وإخفاقاته المحسوبة، مستوحى من سيرة أم كلثوم، كاسرًا سردية نمطية عفا عليها الزمن، ومقدّمًا قراءة فنية مشروعة لا تمس مقام الأسطورة، بل تُحرّرها من قداسةٍ مصطنعة. عودة لمحاكم التفتيش ومن هذا المنطلق، تبدو الاتهامات التى طالت الفيلم وصناعه انعكاسًا لأزمةٍ فى التلقي، أكثر منها حكمًا على العمل نفسه. فلا يصح النظر إليه بوصفه مؤامرة أو أسطورة أم كلثوم، ومحاولة للنيل منها؛ بل يجب أن يناقش فى إطار قراءة فنية واعية، قابلة للاختلاف، تمنح أم كلثوم لحظات إنسانية، دون أن تُنزِلها عن مقامها الرفيع. أما تحويل النقاش إلى تفتيش فى النوايا، وفرض وصاية أخلاقية على الخيال، فهو ارتداد ثقافى خطير، ومنطق يتناقض جذريًا مع روح الفن، وتاريخ أم كلثوم نفسها، ويعيدنا فكريًا إلى محاكم التفتيش. يا سادة؛ إن السيدة التى واجهت السلطة، صنعت أسطورتها بعقلها، وقاومت المرض وتحولات الزمن حتى اللحظة الأخيرة، لن تهتز صورتها بعمل فنى مستوحى من سيرتها، فالتفاصيل الإنسانية الدقيقة تظل ملكًا مشروعًا للرؤية الإبداعية، لا بوصفها حرية مطلقة، وإنما أداة فنية للفهم والتأمل. ويبقى فيلم «الست» عملًا مشروعًا فى ساحة الفن، يُصيب ويُخطئ، لكنه يمتلك شجاعة فتح حوار حول أسطورة صُنعت لتبقى حية فى الذاكرة، ورمزًا قابلًا للتأمل لا التقديس الأعمى والمصادرة!