وضعت مصر خطوطًا حمراء صارمة فى مقدمتها الحفاظ على وحدة السودان وسلامة أراضيه ورفض أى محاولات لتفكيك الدولة أو فرض كيانات موازية استرعت زيارة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادى الانتقالى السودانى إلى القاهرة اهتمام دوائر سياسية وإعلامية واسعة باعتبارها واحدة من أكثر الزيارات دلالة فى ظل تعقيدات المشهد السودانى الراهن، حيث لم تأت الزيارة بوصفها حدثًا دبلوماسيًا تقليديًا بل حضرت كرسالة سياسية مكتملة الأركان فى لحظة إقليمية محتقنة. القاهرة، وهى تستقبل القيادة السودانية، تعلم أن مجريات الزيارة ستكون محط أنظار المراقبين للشأن السودانى لما تحمله من دلالات تتصل بمستقبل الدولة ووحدة أراضيها فى خضم صراع مفتوح، وكانت تدرك أن السودان يقف عند مفترق طرق حاسم وأن أى ارتباك فى بوصلته سينعكس مباشرة على أمن وادى النيل بأكمله. ومن هذا المنطلق، جاء الموقف المصرى صريحًا مباشرًا خاليًا من الدبلوماسية الرمادية بداية من دعم كل مسار دولى جاد يستهدف وقف النزيف السودانى وفى مقدمته الجهود الأمريكية الرامية إلى إحلال السلام وتفادى الانزلاق نحو مزيد من الفوضى والصدام. وغير أن هذا الدعم لم يكن تفويضًا مفتوحًا بل مشروط بثوابت لا تقبل التأويل، فقد عبرت مصر عن قلق عميق إزاء ما يشهده السودان من تصعيد دموى وانتهاكات جسيمة بحق المدنيين خصوصًا فى الفاشر، حيث تحولت المدن إلى ساحات صراع وغابت الحدود بين العمل العسكرى والجريمة الإنسانية فى مشهد يفرض على العالم مسئولية أخلاقية قبل أن تكون سياسية. وفى قلب هذا المشهد، أعادت القاهرة رسم معادلة الأمن بوضوح لا يحتمل اللبس مؤكدة أن الأمن القومى المصرى مرتبط ارتباطًا عضويًا بالأمن القومى السودانى وأن أى تهديد لوحدة السودان أو استقراره هو تهديد مباشر لمصر، لا يمكن تجاهله أو التعامل معه بسياسة الانتظار. وانطلاقًا من هذا الفهم وضعت مصر خطوطًا حمراء صارمة فى مقدمتها الحفاظ على وحدة السودان وسلامة أراضيه ورفض أى محاولات لتفكيك الدولة أو فرض كيانات موازية تحت أى مسمى، فالدولة السودانية من منظور القاهرة ليست ملفًا قابلًا للمساومة بل كيان سيادى لا يجوز العبث به أو إخضاعه لمنطق الأمر الواقع. كما شددت مصر على أن مؤسسات الدولة السودانية تمثل العمود الفقرى لبقاء الدولة وأن المساس بها يعنى فتح الأبواب على مصراعيها أمام الفوضى الشاملة، وفى هذا الإطار أكدت القاهرة حقها الكامل، استنادًا إلى قواعد القانون الدولى واتفاقية الدفاع المشترك فى اتخاذ ما يلزم من إجراءات لحماية أمنها القومى ومنع تجاوز هذه الثوابت. وعلى البعد الإنسانى لم تغب المأساة اليومية التى يعيشها المدنيون السودانيون عن طاولة النقاش، حيث جددت مصر التزامها بالعمل ضمن إطار الرباعية الدولية للتوصل إلى هدنة إنسانية شاملة، تمهد لوقف إطلاق النار وتفتح ممرات آمنة وملاذات إنسانية تضمن حماية المدنيين ووصول المساعدات بالتنسيق الكامل مع مؤسسات الدولة السودانية. فى المحصلة، تعكس زيارة البرهان إلى القاهرة أكثر من مجرد تنسيق سياسى بل إنها إعلان صريح عن شراكة مصير لا تخضع للمناورة ورسالة بأن مصر لن تقف موقف المتفرج إزاء ما يجرى فى السودان، فاستقرار الخرطوم من استقرار القاهرة ووحدة السودان من صميم الأمن القومى المصرى والتاريخ مرة أخرى يفرض على البلدين أن يقفا فى خندق واحد دفاعًا عن الدولة فى مواجهة الفوضى وضد كل محاولات تفكيك الجغرافيا وكسر الإرادة الوطنية.