الخطوط الحمراء الجديدة التى رسمتها مصر يوم الخميس الماضى بالسودان تضع «قوات الدعم السريع» ومن يدعمها أمام خيارين لا ثالث لهما «إن القوات التى لا تستطيع أن تضرب بعيداً عن قواعدها، لا يمكنها أبداً أن تضمن سلامة ما فى داخل حدودها».. هذه القاعدة الذهبية التى سطرها الكاتب العسكرى البريطانى «باسيل ليدل هارت» فى نظريته «استراتيجية الاقتراب غير المباشر» يمكن أن تفسر بعضًا من التحركات الاستراتيجية للدولة المصرية. مؤخرًا انتقلت تحركاتنا من مراقبة الأزمات والصراعات فى دول الجوار إلى التدخل الفاعل لرسم حدود الاستقرار ومنع انهيار وتقسيم المقسم من دول الجوار، مدركين أن أمنننا القومى «ممتد» وليس محصورًا عند أسلاك الحدود الشائكة. قبل 5 سنوات كان «خط سرت-الجفرة» فى ليبيا هو الاختبار الأول لجدية «الردع المصرى»، حينها ظن البعض أن التحذير مجرد مناورة دبلوماسية، حتى استيقظ العالم على حقيقة أن هذا الخط هو جدار نار لا يمكن اقتحامه حتى اليوم ..قبل أسبوع فقط قال خالد الترجمان رئيس مجموعة العمل الوطنى الليبى «إن التدخل المصرى ورسمه خطوطًا حمراء من سرت إلى الجفرة كان له دور محورى فى ضبط الأوضاع وإحباط مخططات التفتيت ومنع تدخلات أجنبية كانت تستهدف الوصول إلى المناطق النفطية والحقول والموانئ الاستراتيجية». اليوم، وفى مواجهة العاصفة الهوجاء التى تجتاح السودان، والتى تقودها ميليشيات «قوات الدعم السريع» عبر مذابح دموية مروعة قتل فيها الآلاف من السودانيين، ونهب وتدمير ممتلكاتهم فى أبشع صور الحروب الأهلية الجاهلية دموية ومأساوية. أعلنت القاهرة عن فصل جديد فى تطبيق عقيدة الردع الممتدة. لم يعد الصمت الدبلوماسى خيارًا، بل خرجت مصر بخطاب حازم رسمت من خلاله معالم «الخط الأحمر» الجديد فى شمال السودان مستندة إلى قوة عسكرية طورت قدراتها لتصبح قادرة على العمل بعيدًا عن الحدود التقليدية لمسافات وأزمنة طويلة وهو نتاج جهد وعمل لو تعلمون عظيم. شهدنا قبل يومين بيانًا رئاسيًا مصريًا هامًا وحاسمًا عقب زيارة رسمية لرئيس مجلس السيادة السودانى الفريق أول عبد الفتاح البرهان لمصر، وجاء البيان بمثابة «وثيقة ردع « واضحة المعالم. فقد حددت القاهرة ثلاثة ثوابت أو خطوطًا حمراء غير قابلة للمساومة.. الحفاظ على وحدة وسيادة السودان، وحماية مؤسساته الوطنية، والرفض القاطع لأى كيانات موازية أو محاولات لتقسيمية. ولم تقف الرسالة عند حدود التحذير، بل لوحت القاهرة ب «اتفاقية الدفاع المشترك» الموقعة بين البلدين منذ عام 1976، والمحدثة فى عام 2021، وهى إشارة صريحة لا تقبل التأويل إلى إمكانية إلقاء مصر بثقلها العسكرى المباشر لصالح الجيش السودانى إذا ما استمر العبث بمقدرات الشعب السودانى الذى يرتبط أمنه ارتباطًا مباشرًا بالأمن القومى المصري. كما أن المادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة، تمنح التحرك المصرى الصلاحية القانونية والشرعية الدولية للدفاع عن النفس وحلفائها وكل ذلك يضع «قوات الدعم السريع» ومجرم حربها «حميدتي» ومن يدعمه فى خانة «كش ملك» وأصبح أمام خيارين لا ثالث لهما..إما العودة إلى مائدة التفاوض والحفاظ على وحدة الدولة السودانية، أو مواجهة «التصعيد العسكرى « لجيشٍ أثبت أنه حينما يرسم خطًا فإنه يملك من القوة ما يكفى لجعل تجاوزه انتحارًا عسكريًا. هذا التحرك المصرى الحازم قابله المجتمع المصرى بالترحاب لأنه يرى فيه امتدادًا لسياسة «خط سرت» الذى حمى العمق الغربى لمصر وخط منع تهجير سكان غزة إلى سيناء أما على المستوى الدولى لا أعتقد أنه سيقابل بممانعة باعتبار أنه «تدخل مسؤول» يهدف إلى منع تحول السودان إلى بؤرة فوضى شاملة تهدد أمن البحر الأحمر والملاحة الدولية، وتؤجج الصراعات فى العمق الأفريقي. الكرة الآن فى ملعب القوى التى تلاعبت بمصير السودان. فمصر، التى التزمت ضبط النفس لفترة، تؤكد أن مجالها الحيوى لا يقبل المساومة .. لقد تم إرسال رسالة واضحة للجميع .. الردع المصرى لم يعد حبيس الحدود وقواتنا قادرة على أن يكون مداها أبعد مما يتخيله الأعداء.