ما يحدث حولنا لا يمكن اختصاره فى «تَغيّر أذواق» أو «موجة تريندات» أو موضة عابرة، نحن أمام مشهد أكبر وأخطر: إعادة تشكيل وعى، وتدوير قِيم، وتفريغ متعمد للهوية المصرية من الداخل، عملية ناعمة، هادئة، بلا صخب، تُجرى على مهل، بينما يبدو كل شىء على السطح طبيعيًا، عاديًا، مألوفًا... إلى أن نكتشف أن الجذور قد سُحبت. وحين يظهر أشخاص من العدم، ويتحولون فى أيام إلى «نجوم»، وتعلو أصواتهم فوق قيمتهم الحقيقية، ويجرى تقديمهم باعتبارهم رموز المرحلة، نفهم أن الأمر لا علاقة له بالصدفة أو الحظ، إنها صناعة ممنهجة؛ لأن أسرع طريق لهدم أى مجتمع هو تعلية التفاهة، وتهميش القيمة، وصناعة قدوات مشوهة تُربك البوصلة، وتجعل الصحيح باهتًا، والخطأ مألوفًا. ومع الوقت، تتشابه الصورة: فضائح تتصدر، بذاءة تُحتفى بها، عنف يُبرر، وجدال فارغ يملأ الشاشات، يتحول الإعلام من أداة وعى إلى آلة تشويش، لأن المجتمع الذى يفكر يصعب توجيهه، أما المجتمع المُنهك بالضوضاء، المنشغل بالتفاهات، فهو الأسهل قيادة. ومن قلب هذا الضجيج، يبدأ تآكل الذوق العام، خطوة وراء خطوة، تختفى الحشمة، وتصبح الألفاظ السوقية لغة يومية، ويُسخر من كل ما هو محترم. ثم تُستكمل الخطة بضرب الرموز الحقيقية، وإبقائها فى الظل، بينما تُرفع النماذج الهشة إلى الصدارة، تُعملق الأقزام، وتُقزَّم القامات، ليخرج جيل بلا قدوة، بلا معنى، بلا مرجعية، وفى الخلفية، يجرى تفريغ الهوية بهدوء: العرى يصبح «حرية»، والسفالة «ضحك»، والانحراف «اختلاف»، والأسرة «قيد»، والدين «تشدد»، والأنوثة مادة للسخرية، والرجولة تهمة بالرجعية، ومع التكرار، ينفصل المجتمع عن جذوره دون أن ينتبه. نحن بحاجة إلى مشروع وطنى يُعيد تقديم الرموز الحقيقية، ويصنع بدائل محترمة فى الإعلام والفن والرياضة، تُواجه التفاهة بالمحتوى، والانحراف بالوعى، لا بالصمت أو التجاهل.