فى زمنٍ صارت فيه الصورة أسرع من الفكرة، وأقوى من الكلمة، وأكثر حضورًا من الحقيقة نفسها، لم يعد السؤال: ماذا نرى؟ بل كيف نرى؟ كيف نُفرِّق بين الجمال والزيف، التعبير والتضليل، الفن والضجيج؟ من هنا، تتزايد أهمية التربية الفنية كحارس للوعى البصري، وكقوة ناعمة تُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والعالم. تدريس الفنون فى المدارس لا يهدف إلى صناعة رسامين محترفين، بقدر ما يهدف إلى تربية الحساسية البصرية؛ تلك القدرة على الملاحظة، والاكتشاف، والتأمل، الطفل الذى يتعلّم أن يرى انعكاس الضوء على ورقة شجر، أو اختلاف درجات الأزرق فى السماء، أو تعبير الحزن فى وجه إنسان مرسوم، هو طفل يتعلّم -فى العمق- كيف يفهم العالم. من هنا تتسع الدائرة لتشمل الثقافة البصرية، بوصفها إحدى أهم أدوات الإنسان المعاصر لفهم طوفان الصور الذى يحيط به، فهى لا تعنى مجرد مشاهدة الصور، بل قراءتها، وتحليلها، وفك رموزها، والتمييز بين ما هو صادق وما هو مُضلِّل، والمدرسة المكان الذى يمكن أن يتدرّب فيه التلميذ على هذا النوع من القراءة الواعية. ولأن الفن الحقيقى لا ينفصل عن قضايا الإنسان، تظل لوحة «الجورنيكا» لبيكاسو مثالًا بالغ الدلالة على تحول الصورة إلى ضمير عالمي، فاللوحة لم توثّق مجرد قصف مدينة إسبانية أثناء الحرب، بل جسّدت مأساة الإنسان تحت القهر، وفضحت العنف فى أقسى صوره، حَطَّم بيكاسو، الشكل ليُعَبِّر عن تحطّم المعنى، وشَوَّه الجسد ليعكس تشوّه العالم، وجعل الأبيض والأسود لغة دائمة للفقد والرعب، وحين يدرس الطالب مثل هذا العمل، يتعلّم كيف يقرأ الألم، ويفهم الحرب بعين الضحية لا بعين المنتصر، هنا تتجلّى قيمة تدريس الفنون؛ أنها تصنع وعيًا، وتبنى موقفًا، فالتلميذ الذى يتعلّم كيف يحلل لوحة، يستطيع لاحقًا أن يحلل خطابًا بصريًا، ورسالة إعلامية، دون أن يقع فريسة سهلة للتضليل. إن الفنون ليست درسًا هامشيًا، بل خط الدفاع الأول عن ذائقة المجتمع ووعيه البصري، دونها تتشوّه الرؤية، ويختل الميزان الجمالي، ونفقد شيئًا من إنسانيتنا، لذا لسنا فى حاجة إلى مزيد من الصور، بقدر حاجتنا إلى بشر قادرين على الإنصات للضوء، وفهم الظلال، والتعاطف مع الألم حين يتجسد فى صورة، والفرح حين يتجسد فى لون، لنتعلم كيف نكون أكثر إنسانية، فحين نفقد قدرتنا على الرؤية الجميلة، نفقد شيئًا من إنسانيتنا دون أن نشعر.