خبراء: خروج عن القواعد الأخلاقية والإنسانية نتيجة التفكك العائلى والجشع لم تكن قرية صناديد التابعة لمركز طنطا بالغربية تتوقع أن تستيقظ على واحدة من أبشع الجرائم العائلية فى منتصف نوفمبر الحالى، القرية التى اعتادت صخب الحقول وروتين الحياة الريفية، وجدت نفسها أمام مأساة، بعدما أقدم شاب يبلغ من العمر 25 عامًا على قتل شقيقه الأصغر صاحب ال 15 عامًا طعناً فى الرأس، بسبب خلاف حول تقسيم الميراث.. اقرأ أيضًا| التشيك تشرع استخدام السيلوسيبين لعلاج الاكتئاب الحاد بداية من 2026 الأب، مزارع فى العقد السادس من عمره، قرر أن يوزع أملاكه على أبنائه وهو على قيد الحياة، خشية نزاعات قد تعصف بالأسرة من بعده، إذ منح الابن الأكبر «قيراط أرض»، بينما سجل منزل العائلة باسم ابنه الأصغر ووالدته، فى محاولة لحمايتهما وسط ظروف الحياة القاسية. اقرأ أيضًا| 6 علامات مبكرة لإصابة طفلك بمرض نفسي.. انتبه لها لكن الابن الأكبر، العائد حديثًا من ليبيا بعد سنوات من الغربة والعمل، اعتبر قرار والده ظلمًا لا يُحتمل، خصوصًا بعدما كان يرسل ما ادخره من أموال إلى أسرته، ليرتكب جريمته المأساوية. جريمة «صناديد» لم تكن الوحيدة خلال الفترة الماضية، إذ شهدت عدة محافظات مؤخرًا تصاعدًا لافتًا فى وقائع جرائم القتل المرتبطة بالنزاعات على الميراث، وهى خلافات تبدأ غالبًا داخل البيوت، ثم تمتد إلى ساحات العنف، لتسجل مأساة جديدة فى كل مرة، وخلال السنوات الماضية، شهدت مدن وقرى مختلفة سلسلة من تلك الوقائع التى تركت خلفها ضحايا وأسرًا مدمرة.. فى مدينة أرمنت غرب محافظة الأقصر، وقعت واحدة من أبشع تلك الجرائم، بعدما أقدم ثلاثة أشقاء - اثنان منهم مزارعون والثالث أستاذ جامعى - على قتل ابن شقيقتهم المحامى داخل منزله، التحقيقات كشفت أن خلافًا قديمًا على قطعة أرض زراعية من الميراث كان السبب الرئيسى وراء الجريمة، وبعد التخلص من ابن شقيقتهم بطلق نارى، توجه الجناة إلى منزل مجاور كانت تقيم فيه ابنتا شقيقتهم الراحلة، وقاموا بقتلهما أيضًا بطلقات نارية أنهت حياتهما فى الحال، فى مشهد أثار صدمة واسعة داخل المنطقة. واستمرارًا لسلسلة هذه النوعية من الجرائم، فى يوليو 2019 شهد مركز دشنا بمحافظة قنا واحدة من أكبر الجرائم العائلية، حيث أسفرت مشاجرة بين أبناء عمومة بسبب قطعة أرض بقرية فاو قبلى عن سقوط 5 قتلى وإصابة اثنين آخرين، التحقيقات أوضحت استخدام أسلحة نارية خلال الاشتباك، ما أدى إلى سقوط الضحايا واحدًا تلو الآخر فى غضون دقائق.. وفى الإسكندرية، تنظر محكمة الجنايات قضية جديدة مرتبطة بالميراث، حيث أقدم المتهم «م.م.ا» على قتل عمه «أ.ا.ج» خلال مجلس عرفى حاول فيه الطرفان مناقشة خلافات الميراث، وجاء فى تفاصيل الواقعة أن مشادة كلامية تصاعدت بعدما تلفظ المجنى عليه بعبارات مسيئة لوالد المتهم، ما دفع الأخير إلى استلال سكين وتوجيه طعنات متتالية لعمه حتى فارق الحياة.. أما فى محافظة الجيزة، فقد وقعت جريمة مشابهة خلال مايو الماضى فى منطقة الهرم، بعدما أدى خلاف على الميراث إلى مقتل شخص بطلق نارى خلال مشاجرة. وتكشف هذه الوقائع المتتالية عن نمط متصاعد لعنف مرتبط بالميراث، حيث تتحول الخلافات المالية داخل الأسر إلى صدامات دامية، وتتحول جلسات الصلح إلى ساحات للانتقام، فى ظل غياب ثقافة اللجوء إلى الحلول القانونية. الجرائم العائلية فى هذا الصدد، تقول د. هدى زكريا، أستاذ علم الاجتماع السياسى، إن الجرائم العائلية المرتبطة بالميراث تمثل خروجًا صريحًا عن القواعد الأخلاقية والإنسانية، مشيرة إلى أن النقاش حول زيادة هذه الجرائم جاء نتيجة استعراض الجريمة وانتشارها الواسع عبر السوشيال ميديا، وهو ما جعل التركيز عليها مضاعفًا، رغم أنها موجودة فى كل المجتمعات. وتضيف خلال حديثها ل«الأخبار» أن مسألة الميراث وقواعد توزيعه باتت إحدى نقاط الاحتكاك داخل عدد من الأسر، على عكس الماضى حين كانت العائلات أكثر تماسكًا وترابطًا، وتابعت: «زمان لو الأب توفى، كان العم يأخد البنات يقيموا عنده.. كان فيه احتواء حقيقى، والتماسك ده كان بيحفظ العائلات من الصدام اللى بقينا نشوفه دلوقتى». وترى د. زكريا أننا أصبحنا أمام «مشكلة اجتماعية واضحة تدعى التفكك العائلى»، بعدما فقدت العائلة القداسة والدور المحورى الذى كانت تتمتع به قديمًا، موضحة أن جذور الأزمة تعود إلى فترة الثمانينيات، حين زادت موجات السفر للعمل بالخارج، وبدأ البعض يجنى ثروات ضخمة مقارنة بإخوته داخل مصر، فظهر التفاوت الاقتصادى داخل الأسرة الواحدة، وتحول إلى نزاعات وصراعات على التركة فيما بعد. وتتابع بأن انهيار التماسك العائلى تفاقم مع تفكك العائلة جغرافيًا، فلم يعد أفراد العائلة يعيش بالقرب من بعضهم، وظهرت قيم الفردية والأنانية والهجرة الداخلية والخارجية، حتى وصل الأمر إلى منطق «أنا ومن بعدى الطوفان»، وهو ما يدفع بعض الأشخاص خاصة مع ضعفهم النفسى إلى ارتكاب جريمة قتل بسبب ميراث. وتؤكد أستاذ علم الاجتماع، أن المشكلة تتعمق فى بعض المحافظات، خاصة فى الصعيد، حيث لا تزال قواعد الميراث الشرعية لا تُطبق بالكامل فيما يتعلق بالنساء، ويتعامل البعض مع تقسيم الميراث بمنطق اجتماعى محلى بعيد عن الشرع، قائلة: «ظهرت الجريمة عندما بدأت قيم الأنانية والفردية تنتشر.. وأصبح هناك صدامًا بين التحولات الاجتماعية وبين التماسك العائلي». وتشير إلى أن المجتمع يشهد الآن ظاهرة خطيرة تتمثل فى تقييم الأشخاص ماديًا فقط، بعيدًا عن الروابط الاجتماعية، بالتزامن مع تراجع الطبقة المتوسطة، وهو ما زاد من حدة التفكك الاجتماعى وفتح الباب لأمراض اجتماعية خطيرة. وتشدد د. زكريا على أن الحل يبدأ من دراسات اجتماعية واقتصادية جادة تقوم برصد وتشخيص الأمراض المجتمعية المنتشرة ومنها جرائم الميراث، ثم وضع خطة تتضمن حلولًا قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، مختتمة حديثها بقولها: «هناك مرض أصاب الضمير الجمعى، فى الماضى كنا نشعر بالأمان مع بعض، خاصة داخل العائلة الكبيرة، أما الآن أصبحت النظرة مليئة بالريبة والقلق والشعور بالأنانية». انهيار القيم وفى السياق ذاته، تؤكد د. وسام منير، الاستشارى النفسى والتربوى، أن قضايا الميراث وتأثيرها على الأسر باتت من أخطر المشكلات الاجتماعية، موضحة أن الميراث فى الأصل شرع دينى وقانونى جعله الله وسيلة للتواصل والرحمة والترابط بين الإخوة، وليس مصدرًا للخصام أو الدماء، فالمشكلة لم تعد نزاعًا ماديًا فقط، بل أصبحت تعبيرًا عن انهيار القيم وظهور الطمع والجشع، وهى عوامل قد تتحول إلى جرائم تهدد المجتمع بأكمله.. وتشير إلى أن خطورة جرائم الميراث أنها لا تحدث بين غرباء، بل بين أقارب وإخوة كان يفترض أن تجمعهم الرحمة لا المحاكم والسلاح، إذ أن هذه النزاعات تحولت من مشكلات فردية إلى قضايا مجتمعية وجذور نفسية واجتماعية شديدة التعقيد. تمتد من الطمع والغيرة إلى ضعف الروابط العائلية وقطع الأرحام وغياب الوعى الدينى والقانونى. وتقول د. منير إن الجانب النفسى يلعب دورًا كبيرًا فى تفاقم الأزمة، موضحًا أن المقارنة والغيرة بين الإخوة منذ الطفولة تولد رغبة فى التعويض واكتساب ما عند الآخر، وهو ما ينعكس لاحقًا فى الصراع على الميراث، مؤكدة أن ضعف الانتماء داخل الأسرة، وتقديم المصلحة الفردية على الجماعية، يعمق من حدة هذه المشكلات، وعلى سبيل المثال البنات على وجه الخصوص يشعرن أحيانًا بالظلم والحرمان، خصوصًا فى البيوت التى تُعطى الذكور حقوقًا أكبر. وتتابع قائلة إن الجشع النفسى يدفع بعض الورثة، خصوصًا الذكور، لاعتبار الميراث «فرصة للثراء السريع»، حتى إن جاء على حساب الأخوات أو العلاقات الأسرية، موضحة أن الظروف الاقتصادية الصعبة وارتفاع تكلفة المعيشة حولت الميراث فى نظر البعض إلى وسيلة لإنقاذ الحياة، كما أن تغييب المرأة عن حقها الشرعى فى بعض المجتمعات خلق أزمة اجتماعية أعمق من مجرد خلاف مالى. غياب القدوة وتضيف الاستشارى النفسى أن غياب القدوة داخل الأسر ساهم فى اتساع الهوة، فالابن الذى يرى أباه أو جده يحرم أحد الورثة أو يستولى على الحقوق قد يكرر الأمر، مشيرة إلى أن سلطة «الكبير» داخل العائلة التى كانت تضبط الخلافات تراجعت بشدة، فاختفت الحكمة، وظهر مكانها التشوه والتفكك. وتحذر من أن الجرائم الناتجة عن الميراث لا تهدد فردًا أو أسرة واحدة، لكنها تهدم العائلة كلها وتقطع جذور الروابط بينها، وتؤدى إلى تشرد أسر وفقدان أرواح وانتشار مشاعر الخوف والثأر والغل، وتحول أبناء العمومة إلى أعداء، وتخلق جيلاً يحمل مشاعر تهديد وحقد ورغبة فى الانتقام، ما يؤدى إلى دائرة عنف قد تمتد إلى جرائم قتل وسرقة وتنمر ونزاعات قانونية معقدة. وتوضح أن مواجهة الأزمة تبدأ بنشر ثقافة التسامح والتفاهم داخل الأسر، وأن يكون للأب والأم دور أساسى فى منع المقارنة والغيرة من مرحلة الطفولة، وإعادة بناء الروابط والتجمعات الأسرية بشكل مستمر، وكذلك أهمية التخطيط العادل للميراث أثناء حياة الوالدين، بحيث يعرف كل ابن وابنة حقوقه بوضوح، مما يمنع الخلافات لاحقًا، بالإضافة إلى دعم البنات والنساء نفسيًا واجتماعيًا ومنع شعورهن بالقهر والحرمان، وتسهيل حصولهن على حقوقهن الشرعية دون صدام. وتؤكد د. منير أهمية وجود مراكز للوساطة الأسرية مثل دور شيخ البلد والعمدة واللجان العرفية، لحل النزاعات قبل وصولها للمحاكم، وتخفيف الضغط عن القضاء لأن بعض القضايا قد تستغرق وقتًا طويلًا يمكن أن تسبب مشاحنات ومشكلات كبيرة، كما طالبت بتغليظ العقوبات على كل من يزور مستندات الميراث، أو يستولى على حق ليس له، أو يحرم الورثة خصوصًا البنات والأطفال من حقوقهم الشرعية. .وتشمل الحلول حسب قول د. منير، استخدام دور الدراما فى نشر الوعى بخطورة هذه القضايا، وتقديم قصص واقعية تُظهر أن الميراث ليس قيمة مادية فقط، بل وسيلة لتعزيز الروابط الأسرية، مؤكدة أن الحل يبدأ من التربية والقيم داخل البيت والمدرسة، وأنه إذا فشلت الوساطة تبقى القوانين العادلة والسريعة هى الضامن الأساسى لعدم امتداد الخلافات إلى جرائم مجتمعية قد تهدد الأسر بأكملها.