اللغة أهم أدوات التفكير وأول مراقى الحضارة، ولا حضارة بلا لغةٍ عفيةٍ متجددةٍ، تستطيع الإفلاتَ من المتاهة، ومن ضراوة ذلك الوحش القابع فيها ليلتهم كل ما يقع بين أنيابه من ضحايا فقدوا عقولهم حين تخلوا عن لغتهم وأسباب قوتهم. فى مسرحيته الشهيرة «الحسين ثائرًا» أبدع الكاتب عبد الرحمن الشرقاوى فى وصفه للحمولات المعرفية للكلمة التى يتلفظ بها الإنسان، باعتبارها ميثاقًا على الرجل العربى الحرّ الشريف؛ فالرجل الذى طلب إلى الإمام الحسين أن يُعلن مبايعة يزيد بن معاوية، حقنًا لدمائه ودماء أسرته، يُغريه بأن البيعة مجرد كلمة يقولها المرء ثم ينفلت من تبعاتها؛ ولم يكن هكذا الإمام الحُسين، رضى الله عنه، فهو من أهل بيت لا يرضون الدنيّة فى دنيا ولا دين ولو كانت بكلمة: «أتعرف ما معنى الكلمة.. مفتاح الجنة فى كلمة.. دخول النار فى كلمة.. وقضاء الله هو الكلمة.. الكلمة لو تعرف حرمة.. زاد مذخور.. الكلمة نور.. وبعض الكلمات قبور.. وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشرى.. الكلمة فرقان بين نبى وبغيّ.. بالكلمة تنكشف الغمّة.. الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة..»؛ وإن كان الإمام الحسين قد فقد حياته وحياة أهل بيته أجمعين، إلا زمرة قليلين، لإمساكه عن قول كلمة فى بيعة غاشم، فإنه قد أحيا النخوة فى هذه الأمة وقدَّم درسًا للأجيال التالية لإدراك ما قد تُحدثه كلمة لاهية فى موطن جدّ من أذى ماحق فى تفكير أجيال كاملة. وهذا الفهم العميق للكلمة هو ما يجب أن تسعى الدولة إلى ترسيخه بين الشباب الذين تخلب ألبابهم «كلمات» تافهة على الميديا فيصدّقونها دونما تثبت، ويلوكونها فيما بينهم كأنها حق واقع، وهى ضلال ناقع، وقد يتخذون مواقف ضد وطنهم بسببها.. وإذا كانت الشائعات تبدأ بالكلمات فإن التوعية بخطورة الكلمة واجبٌ وطنى على المؤسسات الإعلامية، كما هو واجب على باقى مؤسسات الدولة بإظهار الحقائق أولًا بأول ونشرها على القنوات والصحف الرسمية منعًا للتكهنات والظنون، وإغلاقًا لنيران الفتنة التى قد تُشعلها "كلمة" من جاهل لا يعرف ما معنى «الكلمة». ■ ■ ■ ربما لا تعرف الأممالمتحدة، فى قرارها المشهور رقم 3190 لعام 1973 بإدراج اللغة العربية ضمن اللغات العالمية الرسمية أن لغة الضاد أكبر من هذه المنظمة نفسها، بل ومن معظم الدول التابعة لها؛ وقديمًا كان المستشرقون يعجبون من هذه اللغة التى وُلدت كاملة الأعضاء متناسقة التكوين، بلا فترات طفولة ورضاع، وسط مجتمعٍ بدوى لا يعرف كثيرًا من أسباب الحضارة، ثم تزداد رِفعة ورُقيًّا مع تقدم مجتمعاتها واختلاف بيئاتها؛ وكأن حروفها لا تعترف بغير السعى إلى الأمام وسيلة للبقاء، بعكس ما بات يعتقده أبناؤها الآن، إذ لا يكتفون بهجرانها وإنما يسخرون ممن يُتقنها دونما خجلٍ بعدما هربت من العُروق الدماء.. ولا عجب إن مرَّت الاحتفالات السنوية باللغة العربية مرور الكرام، أو مرور اللئام، لا فرق؛ فقد أصبحنا فى زمن العُجمة والرطانة، وكأننا نُحقق مقولة ابن خلدون فى المقدمة حول تقليد المغلوب للغالب. الأمم كلها تشدّ على لغاتها بأضراسها، هربًا من دخول المتاهة وملاقاة «الميناتور» المتوحش، حسبما تقول الأسطورة الإسبانية، ومن ثم الاندياح فى عالم متعولم يقضى فيه القوى على الضعيف، وتُسيطر عليه الثقافة الموجهة، وليس العالمية، وهو حقها لتحافظ على كيانها من الاهتزاز وليس الاندثار، سواء فى ذلك العامل البسيط والأستاذ الجامعى؛ لأن كلا الفريقين يُدرك أن اللغة هى الهوية، وأن الخلخلة فى الهوية خلخلة فى الوجود؛ لذلك أصبحت اللغة مسألة مصيرية عند تلك الأمم التى لم تتقدم من فراغ؛ ولن يجيبك أحد إن طلبت مساعدة بالفرنسية وأنت فى ألمانيا، أو بالإسبانية وأنت فى إنجلترا.. أما أمتنا الخالدة فتجتهد فى كل الأمور التى تُسهم فى هدم لغة الضاد دونما وازع من عقلٍ أو ضمير، رغم أن لغتنا العربية هى نفسها التى تحفظ وجودنا وكياننا من الاندثار، وليس العكس. ■ ■ ■ فى شوارعنا تتشوّه أبصارنا بالحروف الأجنبية الصريحة والمُعرّبة التى تعتلى لافتات المحلات الكبرى؛ وفى مدارسنا لا ينفكّ التلاميذ يرطنون بلغات أخرى استعلاء على أصدقائهم وإثباتًا لأحقيتهم فى دخول زمرة المرتاحين وذوى الجاه؛ وحتى بين أهلنا بالقرى لم يعد نشازًا أن تسمع كلمات أجنبية بين رطانات عربية، بعدما جرت على ألسنتهم مئات الكلمات الدالة على منتجات أجنبية سكنت بين عقولنا وأصبحت واقعًا نتعايش معه؛ وإلا فإن اتهامات بالجهل والرجعية جاهزة لتجلد ذواتنا المتمسكة باللسان العربى الذى نزل به القرآن.. وهى آفات تجب مواجهتها بقوانين «حامية» لكل من يتجرأ على إهانة لغة الضاد؛ وأولها قانون «حماية اللغة العربية» التائه فى أضابير البرلمان ومجلس الوزراء منذ عدة سنوات، دونما أملٍ فى انبلاج قريب! اللغة أهم أدوات التفكير وأول مراقى الحضارة، ولا حضارة بلا لغةٍ عفيةٍ متجددةٍ، تستطيع الإفلاتَ من المتاهة، ومن ضراوة ذلك الوحش القابع فيها ليلتهم كل ما يقع بين أنيابه من ضحايا فقدوا عقولهم حين تخلوا عن لغتهم وأسباب قوتهم.