إن اللغة العربية أداة التعارف بين ملايين البشر المنتشرين فى آفاق الأرض، وهى ثابتة فى أصولها وجذورها، متجددة بفضل ميزاتها وخصائصها. فللغة شأن كبير، وقيمة عظيمة فى حياة أى أمة من الأمم. وعن طريقها وبواسطتها، اتصلت الأجيال العربية جيلا بعد جيل فى عصور طويلة. إن الجانب اللغوى جانب أساسى من جوانب حياتنا، واللغة مقوم من أهم مقومات حياتنا وكياننا، وهى الحاملة لثقافتنا ورسالتنا، والرابط الموحد بيننا، والمكون لبنية تفكيرنا، والصلة بين أجيالنا، والصلة كذلك بيننا وبين كثير من الأمم. وأورد هنا بعض الأقوال لبعض العلماء فى أهمية اللغة العربية: يقول الدكتور عبد الوهاب عزام: "العربية لغة كاملة محببة عجيبة، تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس، وتكاد تتجلى معانيها فى أجراس الألفاظ، كأنما كلماتها خطوات الضمير، ونبضات القلوب، ونبرات الحياة". ويقول مصطفى صادق الرافعي: "إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية، فلا يزال أهله مستعربين به، متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكما". ويقول الدكتور طه حسين: "إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصى الثقافة فحسب، بل فى رجولتهم نقص كبير ومهين أيضا". وهذا ما يدعونا إلى الفخر بأننا أبناؤها وأحفادها وأصحابها. ولكن بعضنا- وما أكثرهم- يتنكر لها، ويظهر جحودا بشأنها، ما أبشعه من جحود. إن بعضنا يسئ إلى اللغة العربية أيما إساءة، عندما يرسل أولاده إلى المدارس الأجنبية، لكى تكون لغته الأم هى اللغة الإنجليزية، أو الفرنسية، أو الألمانية، وتكون اللغة العربية هى اللغة الثانية أو الثالثة، أليس هذا امتهانا للغة العربية من أهلها وفى بلدها؟ كما أن بعضنا يتباهى ويفتخر بأن ابنه يدرس فى مدارس أجنبية، و"يرطم" بالإنجليزية، أو بالفرنسية، ولم يخطر على بال أحد منا أن يفتخر ويتباهى بأن ابنه يدرس العربية، لغة القرآن، ليتمكن منها أولا، ثم بعد ذلك يتمكن من اللغات الأجنبية الأخري. لست ضد تعلم اللغات الأجنبية، وليس أحد ضد ذلك بالطبع، فقد حث الرسول - صلى الله عليه وسلم- على ذلك فقال "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم"، ولكن المقصود من كل ذلك أن تكون اللغة العربية هى الأصل وهى الأساس، ولا نفتئت عليها بأن يتم تصعيد لغة أخرى على أكتافها، وأين؟ فى بلدها ووسط أهلها وناسها! تمكن من لغتك الأصلية أولا، وقف على ناصيتها، وكن خبيرا بها ، كى تقول: خبير أنا ولا ينبئك مثل خبير، ثم بعد ذلك اتجه إلى اللغات الأخري، انهل منها كما تريد، فإنك بذلك تكون قد جمعت بين الحسنيين. أكاد أجزم بأن هذا لا يحدث فى أى دولة من دول العالم، تعتز بلغتها القومية وتحرص عليها من الزوال والاندثار. فالإنجليزية ملكة متوجة فى بلادها التى تتحدث بها، وفى غير بلادها كذلك، وكذلك الفرنسية، والإيطالية، والإسبانية... إلخ. هل يوجد فى هذه البلاد مدارس لتعليم اللغة العربية كما يوجد عندنا؟ وإن وجدت، فإنها تكون لتعليم أبناء الأقلية من الجاليات العربية. وعندما تتحدث مع شخص أو تتناقش معه حول موضوع ما، يتعمد أن ينطق وسط الكلام بكلمات إنجليزية، لكى يثبت أنه مثقف. أفلا يدل على الثقافة القومية إلا كلمات من لغة أخري، وليتها سليمة، ولكنها مكسرة؟ أفلا تنفع الكلمات العربية الفصيحة، وسط ركام العامية الكاسح، وسيلها الجارف، لتدل على ثقافة الواحد منا؟ إن جميع أمم العالم تستميت فى سبيل المحافظة على هويتها، ولغتها، وثقافتها المميزة لها، لأن اللغة عنوان الأمة، وعنوان كرامتها، ولهذا يندر أن تجد غير اللغة القومية للدولة فى الإعلانات، أو المطاعم، أو الطرق، ويندر أن تجد أسماء أجنبية للمنشآت، والمؤسسات، والشركات المحلية. وإذا وجد شيء من هذا، فإنه يكون على استحياء، وللضرورة القصوي. أما فى بلاد لغة الضاد، فإن اللغة العربية تعانى الأمرين من منافسة المصطلحات الأجنبية فى تسمية مراكز التسوق، والفنادق، ووسائل النقل، والمحال التجارية، وأسماء المؤسسات والشركات، واللوحات الإعلانية والإرشادية، والمطاعم، وقوائم الطعام، والمنتجات المختلفة، وكأن الشعب الأصلى يتكلم لغتين أو أكثر، وكلّ منها له صفة رسمية يقرها النظام أو الدستور. لقد أبدع الكثير وصال وجال فى نقاش مشكلات المجتمع، وتوصلوا لحلول جذرية ناجعة ناجحة، وتغنى قيس بليلاه، وهام بها على وجهه، فنثر باقات من الشجن، والشجو، والمعاناة من فراق الحبيب، ولم أجد إلا القليل النادر من يُغنى على ليلى لغتنا، والتى بدأت رحلة التغريب، والتهميش على أيدينا، من خلال أقلامنا. فقد نجد أنفسنا عاجزين أمام اللغة العربية، ولكن لم نسأل أنفسنا: لم نحن صامتون؟ ومتى سنظل صامتين على هذا العجز؟ هل هو خذلان؟ أم هو إهمال؟ أم العجز فعلا. ومن هذا المنطلق، لابد من اتخاذ جميع المناسبات حافزا للمحافظة على لغة القرآن، ولغة الأدب، ولغة الثقافة، ولغة الشعر، ولغة الفصاحة، وغيرها من المعطيات، وحمايتها من الهجمة التى تسعى إلى تمييعها، وتفتيتها، وتهميشها من خلال فعاليات ووسائل مختلفة، تقودها جمعيات، ومؤسسات، وجماعات، وأفراد. والسبب أن اللغة أساس بنيان الأمم، فلا توجد معرفة بلا لغة، ولا ثقافة بلا لغة، ولا هوية بلا لغة، ولا موروث بلا لغة، ولا تاريخ بلا لغة، ولا آثار بلا لغة. فاللغة عبارة عن الوعاء الذى تنصهر فيه كل تلك المشتقات ومفرداتها، وتكون من خلالها ثقافة وهوية الأمة. لك الله أيتها اللغة العظيمة، كم تتحملين منا كل هذا التنكر والجحود! ورحم الله علماء ديننا الحنيف الأوائل، فقد سموا اللغة العربية "علم الآلة"، أينفع النجار بشيء دون آلة النجار؟ أيستطيع الجراح البارع استئصال الآفات دون آلة الجراح؟ أيصطاد الصياد شيئا دون آلة الصيد؟ فمن ضيع علم الآلة، كان لما سواه أكثر تضييعا. حقا ما أعظم لغة الضاد، وما أرفع شأنها، وما أسمى قدرها، وإن تنكر لها أهلها ردحا من الزمن، وإن أهملها قومها حينا من الدهر. يا سادة إن اللغة تئن ألما، وتعتصر حزنا على ضياع السليقة، فهل من مدّكر؟