تسعى أديس أبابا إلى تحويل المياه إلى سلاح جيواستراتيجى أو ورقة ضغط على مصر والسودان، كما تستهدف الاستيلاء على أراضى الدول المجاورة إلى فرض «استعمار إثيوبي» وتحاول تغطية فشلها وأزماتها الداخلية بافتعال أزمات وتصديرها لدول الجوار. تنصل إثيوبيا من الاتفاقيات الدولية الملزمة بشأن مياه النيل استنادًا إلى أن تلك الاتفاقيات جرى توقيعها فى الحقبة الاستعمارية، هو فى الواقع زعم فارغ من أى مضمون أو سند قانونى أو حتى طرح سياسى متماسك لا تزال إثيوبيا تلعب نفس الدور وتسمح لنفسها بتكرار نفس الأساليب الاستعمارية القديمة فى المنطقة، سواء عبر استخدام المليشيات أو التعامل مع الحركات الانفصالية للتمدد غير المشروع فى شرق إفريقيا ذات يوم حضر رئيس الوزراء البريطانى وداهية عصره ونستون تشرشل جنازة لأحد السياسيين، فوجد مكتوبا على نعش الفقيد «وداعا السياسى الماهر والرجل الصادق»، فهمس تشرشل بسخريته اللاذعة قائلا: عجبًا.. كيف يضعون رجلين فى نعش واحد؟! وبالفعل لا يعتبر كثير السياسيين حول العالم الكذب إثمًا أو جريمة أو حتى نقيصة أخلاقية، بل إن بعض هؤلاء الساسة يعتبرون الكذب من لوازم عملهم وأدواته المباحة، بل إن بعض هؤلاء يرى فى الكذب مهارة، وفى التضليل حرفة، فيجيد التلون والادعاء مثلما يجيد التنفس. وقد يصادف بعض هؤلاء الساسة حضورًا أو يستمرون فى مواقعهم، لكنهم سرعان ما يفقدون المصداقية والقدرة على الإقناع، مهما طال بقاؤهم فى مناصبهم، وللأسف فقد كُتب على عصرنا أن يتحول فيه الكذب إلى منهج، وترويج الأباطيل إلى أداة من أدوات الحروب الحديثة، وكُتب علينا فى مصر أن نواجه «فيضاناً» من تلك الأكاذيب يأتينا من كل اتجاه، وكلما تقدمنا خطوة على طريق البناء والإصلاح وتعزيز مكانة الدولة نواجه مزيدًا من تلك الأكاذيب. والحقيقة أن الكذب بات سلاح المأزومين ومن يتصورون أن الالتفاف على الحقائق قد يكون مخرجًا لهم من أزماتهم التى تحاصرهم وتفضح عجزهم عن مواجهة الواقع، وبدلًا من أن يعملوا من أجل تجاوز عثراتهم، يلجأون إلى التحايل واصطناع حملات الكذب المُمنهجة من أجل تشويه النموذج المستقيم والطرف الذى يفضح عجزهم، وينهالون بالدعايات المضللة على من يتمسك بالحقائق وبالمنطق والعمل الجاد من أجل الوصول إلى واقع يعرف فيه العالم الحجم الحقيقى لأولئك الأفاقين. ■ ■ ■ واجهت مصر - ولا تزال- العديد من حملات الأكاذيب المُمنهجة، سواء من أطراف تعمل على زعزعة الاستقرار فى الداخل وتشويه ما تقوم به الدولة من إنجاز حقيقى فى مختلف المجالات، وفى الوقت ذاته تواجه حملاتٍ لا حصر لها من أطراف خارجية لا تتقبل أن تستعيد مصر مكانتها الإقليمية والدولية، وأن تعمل بجدية وبرؤية واقعية وأداء ملتزم بأحكام القانون الدولى وأعراف العلاقات الدولية واحترافية تحظى بتقدير الجميع. وربما كان من الطبيعى أن تواجه دولة بحجم وقيمة مصر هجومًا من أطراف لا يسرها أن تتقدم الدولة المصرية، وأن تحظى بالمكانة التى تستحقها فى المنطقة والعالم، فبعض تلك الأطراف تدرك أن الحضور المصرى الفاعل سيكون «سدًا» منيعًا أمام محاولاتها للتوسع والتمدد على حساب الغير، وأن الفراغ الذى يخلقه انشغال مصر بهمومها الداخلية هو وسيلتها الوحيدة للوجود كى تبدو بحجم أكبر من الواقع وأدوار تتجاوز قدراتها. قد تكون حملات الهجوم ضد مصر مفهومة فى سياق التنافس الإقليمي، لكن ما يبدو غريبًا بحق هو كثافة تلك الحملات والإصرار على استمرارها، والوصول إلى هذا القدر من الافتضاح والتدنى ولا أبالغ إن قلت «الرخص» فى صياغة تلك الحملات التى تحمل خطابًا ساذجًا يجافى أبسط قواعد المنطق فضلًا عن ابتعاده عن أية قواعد للسياسة. ■ ■ ■ أقول ذلك وأنا أتابع وقائع حملة جديدة للكذب والتضليل الإثيوبى ضد مصر، هذه الحملة التى بلغت مستوى جديدًا من التهافت والتردى غير المسبوق سياسيًا ودبلوماسيًا، وتجسد ذلك فى البيان الذى أتحفتنا به وزارة الخارجية الإثيوبية قبل أسبوع. هذا البيان -عند تفنيده- تجده يدين إثيوبيا ويفضح سياستها ويجردها من شعارات وأردية زائفة لطالما حاولت أن تتستر وراءها لإخفاء عورات العجز والفشل الداخلي، وخداع شعبها الذى يعانى الجوع والفقر نتيجة سياسات حكومته العاجزة عن إدارة التنوع العرقى فى البلاد من خلال افتعال معركة وأزمة خارجية، تتصور الحكومة المأزومة أنها بافتعال تلك الأزمات ستوحد الشعب وتُخرس الانتقادات الشعبية المتصاعدة لسياساتها التى لم تفعل شيئًا سوى إشعال الحروب الأهلية وتأليب العرقيات الإثيوبية على بعضها البعض، وبيع الوهم لملايين المواطنين البسطاء، وتعليق عجزها على شماعة قديمة باتت مكشوفة تزعم أن مصر هى التى تقف حجر عثرة فى طريق تنميتهم!! هذا فضلًا عن تكرار البيان الساذج لشعارات فارغة عن أن إصرار القاهرة على حماية حقوقها المائية التاريخية «يستند إلى معاهدات عفا عليها الزمن تعود للحقبة الاستعمارية، بينما الحقيقة أن إثيوبيا كانت - ولا تزال - أداة فى يد الحركة الاستعمارية سواء بصورتها القديمة أو الجديدة!! ■ ■ ■ إصرار إثيوبيا على الإشارة إلى عقلية الاستعمار ومحاولة التنصل من الاتفاقيات الدولية الملزمة بشأن مياه النيل استنادًا إلى أن تلك الاتفاقيات جرى توقيعها فى الحقبة الاستعمارية، هو فى الواقع زعم فارغ من أى مضمون أو سند قانونى أو حتى طرح سياسى متماسك، فإثيوبيا لم تخضع للاستعمار الإيطالى سوى خمس سنوات (1936-1941)، وبالتالى كل الاتفاقيات التى وقعتها بشأن النيل أعوام 1902 و1929 كانت بإرادتها وإرادة حكامها، فلماذا التنصل؟ اسم «منليك الثاني» واحد من الأسماء التى تحظى بتقدير كبير فى الخطاب الإثيوبى المعاصر، وهو أحد الأباطرة المشهورين فى تاريخ البلاد، ويحاول آبى أحمد استدعاء سيرته فى أحيان كثيرة، و «منليك الثاني» هو الذى وقع فى 15 مايو 1902 اتفاقًا بين إثيوبيا من جانب وبين مصر والسودان من جانب آخر ووقعته عنهما بريطانيا بوصفها الدولة المحتلة للبلدين بشأن تخطيط الحدود بين السودان وإثيوبيا. وفى المادة الثالثة من تلك الاتفاقية تعهد «منليك الثاني» بألا يُصدر تعليمات أو أن يُسمح بإصدارها فيما يتعلق بعمل أى شيء فى النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط، يمكن أن تسبب اعتراض سريان مياهها إلى نهر النيل، ما لم توافق على ذلك حكومات دول المصب مقدمًا. وتكشف تلك الحقائق حجم الكذب الإثيوبي، فإمبراطور الحبشة «منليك الثاني»، لم يكن سلطة استعمارية، وهو فى تلك الاتفاقية يتعهد صراحة بعدم المساس بالنيل الأزرق - الرافد الأساسى للمياه إلى السودان ومصر- إلا بموافقة مُسبقة من دول المصب، أما وجود الطرف الثانى وهو بريطانيا باعتبارها الدولة التى تحتل مصر والسودان فى تلك الفترة، فهى مسألة تتعلق بالطرف الثانى فى الاتفاقية، وليس بإثيوبيا، وبالتالى لا مجال للزعم بعدم الالتزام بالاتفاق، فقد تحقق الالتزام القانونى الإثيوبى بكل وضوح. الأمر ذاته ينطبق على اتفاقية 1929 وهى واحدة من أهم الاتفاقيات ممتدة الأثر إلى اليوم التى تنظم تدفق مياه النيل بين الدول المشتركة فى حوض النهر، وتنص الاتفاقية صراحة فى الفقرة (ب) من البند الرابع، بأنه «لا تقام بغير اتفاق سابق مع الحكومة المصرية أعمال رى أو توليد قوى، ولا تتخذ إجراءات على النيل وفروعه أو على البحيرات التى ينبع منها سواء فى السودان أو فى البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية يكون من شأنها إنقاص مقدار المياه الذى يصل إلى مصر». وإذا كانت إثيوبيا تتشدق دومًا بأهمية الالتزام بالآليات الإفريقية لحل المنازعات بين دول القارة، فإنها أول من تحتاج إلى تذكير نفسها بهذا المبدأ، وهى تتجاهل قاعدة مستقرة أرستها منظمة الوحدة الإفريقية فى اجتماعها بأديس أبابا عام 1965، وأكدت فيها استمرارية أية اتفاقيات سابقة خاصة بالحدود والمسائل العينية، حتى لو كانت من عهد الاستعمار، ولذلك فإن اتفاقية 1929 تظل سارية المفعول، رغم أنف المراوغين. وعلى المستوى الدولي، وطبقًا لاتفاقية فيينا لعام 1978 بشأن التوارث الدولى للاتفاقيات الموقعة بين الدول المتجاورة أو بين من يمثلها أو يحكمها، فإن الاتفاقيات السابقة يتم توريثها توريثًا تلقائيًا، وتصبح سارية بالحق التاريخى المُكتسب لورثتها الشرعيين الممتدة جذورهم للأسلاف الموقعين على هذه الاتفاقية من قبل، وبالتالى فلا مجال للإنكار الإثيوبى للحقوق التاريخية المصرية فى مياه النيل. ■ ■ ■ وإذا كان الالتزام القانونى يفند المزاعم الإثيوبية ومحاولات التنصل من تلك الالتزامات، فإن حقائق التاريخ على المستوى السياسى أشد فضحًا وكشفًا لما تمارسه سلطة أديس أبابا من تزييف وادعاءات، فقد كانت إثيوبيا أداة للحركة الاستعمارية فى كثير من الأحيان وبخاصة الاحتلال البريطانى الذى استخدمها سلاحًا لزعزعة استقرار منطقة القرن الإفريقي. تاريخيًا، لعبت إثيوبيا دور الوكيل للمستعمر البريطانى فى منطقة القرن الإفريقى وباب المندب (قبل استقلال إريتريا وفقدان إثيوبيا لوجودها على البحر الأحمر)، وقد كانت القوات البريطانية وقوات الكومنولث هى التى ساعدت الإمبراطور هيلا سيلاسى لمحاربة الإيطاليين وإخراجهم من بلاده عام 1941. كما لعبت إثيوبيا دور الوكيل حتى لوكلاء الحركة الاستعمارية، وأقصد هنا إسرائيل، والعلاقة بين أديس أبابا وبين تل أبيب قديمة ومعروفة للجميع، وقد امتدت منذ عقود عندما كانت أديس أبابا جزءًا من محور شكلته تل أبيب فى ستينيات القرن الماضى لمحاصرة دول الطوق العربى فيما عُرف بسياسة «تطويق الطوق» أو «عقيدة المحيط» (Periphery Doctrine)، والتى صاغها رئيس الوزراء الإسرائيلى الأول ديفيد بن جوريون، بهدف محاصرة دول الطوق الجغرافى المباشر للأراضى الفلسطينية المحتلة مثل مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق. وكانت إثيوبيا إلى جانب إيران الشاه، وتركيا التى كانت أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بإسرائيل فى عام 1949، اللاعبين الرئيسيين فى هذه السياسة الإسرائيلية، والحقيقة أن إثيوبيا ومنذ تلك الفترة تحولت من «لاعب» إلى «ملعب» للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إذ كانت ترى فيها دائمًا ورقة ضغط يمكن استخدامها عند اللزوم ضد مصر والسودان. ■ ■ ■ ولا تزال إثيوبيا تلعب نفس الدور وتسمح لنفسها بتكرار نفس الأساليب الاستعمارية القديمة فى المنطقة، سواء عبر استخدام المليشيات أو التعامل مع الحركات الانفصالية للتمدد غير المشروع فى شرق إفريقيا. ومن الواضح أن تلك التبعية القديمة للحركة الاستعمارية، والتى تسعى حكومة آبى أحمد، إلي أن توهم الجميع بأنها تناهضها، لا تزال مستمرة بصورة أو بأخرى، فالعبث غير المسئول لتغيير الواقع الإقليمى فى منطقة القرن الإفريقي، تلك المنطقة الهشة أمنيًا وسياسيًا، من شأنه أن يستدعى تدخلات خارجية، وربما هذا ما تريده إثيوبيا لتغيير قواعد اللعبة فى تلك المنطقة الاستراتيجية، وهو ما تراه يخدم مصالح حلفائها وبخاصة إسرائيل، ويهدد مصالح الدول العربية المطلة على البحر الأحمر. ولعل الاتفاق المشبوه الذى وقعته مطلع عام 2024 حكومة رئيس الوزراء الإثيوبى المأزوم آبى أحمد مع ما يسمى بحكومة «أرض الصومال» الانفصالية للحصول على منفذ بحرى على البحر الأحمر خير شاهد على تلك العقلية التوسعية التى تجسد الفكر الاستعمارى فى أقبح صوره، وتتجاهل الحقائق القانونية والسيادة الوطنية لدول الجوار المستقلة مثل الصومال، إذ يسمح الاتفاق بحصول إثيوبيا على منفذ بحرى على البحر الأحمر عبر ميناء بربرة والساحل المحيط به لمدة 50 عاماً، مقابل وعود باعتراف إثيوبيا باستقلال صومالى لاند كدولة ذات سيادة، وقد أثار هذا الاتفاق موجة من الانتقادات الدولية، كما فجر أزمة كبيرة فى منطقة القرن الإفريقى بسبب رفض الصومال القاطع له، معتبرة إياه انتهاكاً لسيادتها ووحدة أراضيها. وإذا أضفنا إلى ذلك الممارسات الإثيوبية التى تسعى للسيطرة غير الشرعية على منطقة الفشقة السودانية، وحماية مليشيات «الشفتا» الإثيوبية التى تهدد أمن السودان فى تلك المنطقة الخاضعة للسيادة السودانية منذ عام 1902 على النحو الذى أوضحناه، وكذلك المحاولات الإثيوبية المستمرة لزعزعة استقرار إريتريا، ودعم ميلشيات مناوئة لحكومة أسمرة، وغير ذلك من الممارسات غير المسئولة من جانب حكومة آبى أحمد، سنكتشف أن تلك الحكومة هى المثال الحى والفاضح للذهنية الاستعمارية التى تتشدق أديس أبابا بأنها ترفضها. ■ ■ ■ البيان الإثيوبى أيضًا تضمن كذبة متكررة تصر عليها الحكومة المأزومة فى أديس أبابا، وهى أن مياه النيل شأن إثيوبى ولا مجال لتدخل إقليمى أو دولى فى الأمر، ومع تجاوز حقيقة أن أديس أبابا هى التى أفشلت كل جهود إنهاء أزمة سد الخراب الذى أقامته على النيل الأزرق لحبس المياه عن دولتى المصب (مصر والسودان)، وأجهضت -عن عمد- مفاوضات طالت لأكثر من عقد، والتفت على وساطات من دول إفريقية ومن الاتحاد الإفريقى نفسه، لكن التاريخ نفسه يفضح تلك الكذبة الإثيوبية، فقد كانت أديس أبابا أول من أدخل قوى دولية فى قضايا المياه المتعلقة بالنيل. لم تستعن إثيوبيا بالمجتمع الدولى ممثلًا فى الأممالمتحدة، أو المؤسسات القائمة على تنفيذ القانون الدولي، بل سعت إلى أن تكون أداة ضغط على مصر فى مرحلة زمنية بالغة الخطورة، وهى المرحلة التى أعقبت إصرار مصر على استكمال بناء السد العالي، وإعلان تأميم قناة السويس، بعد سحب الولاياتالمتحدة عرض تمويل السد، ورفض البنك الدولى تمويل المشروع، فقد استخدمت كل من بريطانياوالولاياتالمتحدة إثيوبيا كوسيلة لمحاولة عرقلة مصر عن إتمام المشروع، حتى قبل احتدام الأزمة ووصول الموقف بين مصر من جانب وبين بريطانياوالولاياتالمتحدة إلى حد المواجهة. وتشير وقائع التاريخ إلى أن بريطانيا سعت لإدخال إثيوبيا كشريك فى المباحثات الخاصة بمياه النيل لتعقيد عمليه بنائه، وطرح السفير البريطانى فى أديس أبابا فى يوليو 1954 فكرة تشكيل لجنة ثلاثية لدراسة مشروع التخزين المائى فى إثيوبيا، لصرف نظر مصر عن مشروعات التنمية، والتخلى عن فكرة إنشاء السد العالى مقابل إقامة مشروعات تخزين بعيدة عن الأراضى المصرية كمشروع سد على بحيرة تانا، وآخر على بحيرة فكتوريا، ومنع كل من مصر والسودان من إقامة أية مشروعات مائية داخل أراضيهما، سواء مشروع سد الروصيرص فى السودان أو السد العالى فى مصر، وقد رفضت مصر بقوة مقترح بريطانيا بإقحام إثيوبيا فى تلك المفاوضات، فالأمر يتعلق بالجزء الأدنى للنيل أى بدولتى المصب فقط، حيث لا يوجد أى تداخل فى حركة المياه، أو مساس بأية مصالح مائية لإثيوبيا. ومع احتدام المواجهة بين مصر وبريطانيا، دفعت الأخيرة إثيوبيا إلى المطالبة فى 1957 بتدويل مشكلة مياه النيل، وحاولت إغراء بعض الساسة السودانيين بالتجاوب مع الموقف الإثيوبى لتشكيل جبهة لخنق مصر مائيًا، وتعطيل مشروع السد العالي، إلا أن ضغوط الرأى العام السودانى كانت أقوى، وتراجع هؤلاء الساسة عن مساعيهم لدعم الموقف الإثيوبي، وهو ما دفع الإثيوبيين فى تلك الفترة وعلى لسان وزير خارجيتهم لإعلان أن «بلاده ليست فى حاجة إلى التفاوض مع مصر والسودان، وأن الحكومة الإثيوبية تمتلك خططًا لتطوير وبناء عدد من السدود لتوليد الكهرباء، وأن 80 فى المائة من تلك الخطط تتركز فى حوض النيل الأزرق، لأن من حقها أن تستغل المياه لديها كما يتراءى لها، وبشكل مستقل، ودون تدخل من أحد»، وكأن التاريخ يعيد نفسه وذلك الخطاب الأجوف يتردد من أعماق التاريخ!! ■ ■ ■ لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبعدما توصلت مصر والسودان إلى اتفاق بشأن مياه السد العالي، ووقع الطرفان الاتفاق النهائى فى 2 نوفمبر 1959 استشاطت الولاياتالمتحدة غضبًا، فأرسلت بالتنسيق مع إمبراطور الحبشة فى ذلك الوقت هيلا سلاسى بعثة من مكتب استصلاح الأراضى الأمريكية لدراسة أحواض الأنهار الإثيوبية مع التركيز على حوض النيل الأزرق، حيث وضعت مخططًا لبناء 33 مشروعًا وسدًا على ذلك النهر بهدف التأثير السلبى على وصول مياه النيل إلى مصر وعلى توليد الكهرباء من السد العالي، واستمرت البعثة فى مهمتها حتى عام 1964. المثير فى الأمر أن تلك البعثة وضعت حصيلة دراساتها فى 17 مجلدًا، وأوصت بإنشاء عدة سدود على النيل الأزرق، تسحب من حصة دولتى المصب (مصر والسودان) لصالح ما ادعت أنه تخزين المياه لتوليد الكهرباء ورى الأراضى الإثيوبية، بينما الحقيقة أن ذلك التخزين هدفه حبس المياه عن دولتى المصب، وكان سد الخراب الإثيوبى أحد تلك السدود المُقترحة!! تخيلوا كل هذه الحقائق التاريخية الدامغة، ومع هذا تصر إثيوبيا على التشدق بأن مصر هى التى لم تتجاوز أفكار الحقبة الاستعمارية بينما تلك الحقائق الدامغة تؤكد بجلاء أن السياسة الإثيوبية هى التى لا تزال ومنذ عقود مجرد خنجر فى يد القوى الاستعمارية لطعن الدول الإفريقية في الظهر!! ■ ■ ■ أتوقف أيضًا وباندهاش شديد أمام المزاعم الإثيوبية بأن مصر تحصل على نصيب الأسد من إيراد نهر النيل، وهذا الزعم بحد ذاته كفيل بتقويض السردية الإثيوبية من أساسها، فنحن هنا لسنا بحاجة إلى اتفاقيات أو تقارير دولية يمكن أن تتنصل الحكومة الإثيوبية منها، بل نحن بحاجة فقط لأن نقرأ سطورًا من كتاب الطبيعة التى تريد إثيوبيا تغييرها وأن تمنع تدفق النيل فى مجراه الذى أرادته مشيئة الله نحو دولتى المصب. وما زلت أتذكر كلمات وزير الطاقة والموارد الإثيوبى فى خطابه أمام جلسة مجلس الأمن عندما نظر المجلس فى 8 يوليو 2021 شكوى مصر من الممارسات الإثيوبية، وهو يردد فى أداء تمثيلى مكشوف أن الأطفال الإثيوبيين عطشى بينما المياه تتدفق إلى خارج حدودهم (!!) ويكفى أن نعرف حقيقة الأرقام الخاصة بتدفقات المياه على الأراضى الإثيوبية، مقارنة بمصر لكى نكتشف حجم التضليل الذى تمارسه أديس أبابا وساستها، ففى الوقت الذى يبلغ فيه إيراد نهر النيل حوالى 1660 مليار متر مكعب من المياه، تبلغ حصة مصر منه 55.5 مليار متر مكعب أى نحو 3.3 فى المائة منها. وبمقارنة سريعة بين مصادر المياه فى مصر وإثيوبيا، نجد أن حجم المياه التى تسقط على هضبة الحبشة سنويًا يُقدر بحوالى 900 -950 مليار متر مكعب فى المتوسط، وهو ما يعنى أن حصة مصر أقل من 6 فى المائة من تلك المياه التى تسقط هناك!! وتشير بعض التقديرات إلى أن حجم الجريان السطحى السنوى فى أحواض الأنهار الإثيوبية يبلغ حوالى 122 مليار متر مكعب، وتمتلك إثيوبيا 12 نهرًا، وتسيطر مع أوغندا وتنزانيا على 78 فى المائة من فائض المياه فى حوض النيل، ولذلك لا يتجاوز اعتمادها على نهر النيل أكثر من 2 فى المائة فقط، بينما تصل نسبة اعتماد مصر على نهر النيل إلى أكثر من 97 فى المائة. هذه الأرقام تكشف بوضوح أن القضية بالنسبة لإثيوبيا ليست قضية مياه فلديها موارد مائية هائلة بعيدًا عن النيل الأزرق، ولا حتى قضية تنمية، فمصر أول من يدعم حق تنمية دول القارة، وتشارك بالتمويل والتنفيذ فى العديد من تلك المشروعات، وأنه إذا كان لأحد أن يتخوف من العطش، فبالتأكيد لن تكون إثيوبيا، بينما الاعتماد المصرى شبه الكامل على مياه النيل كمورد للمياه العذبة هو ما يجعل مسألة المياه بالنسبة لنا قضية أمن قومي، وأى مساس بها يعتبر دون أدنى مبالغة مساسًا بالحياة. ■ ■ ■ كل هذه الحقائق الدامغة تكشف بما لا يدع مجالًا للشك أن التحركات الإثيوبية سواء فى ملف مياه النيل، أو فى تهديد استقرار القرن الإفريقى ليست سوى جزء من ذهنية توسعية هى امتداد لعصر الاستعمار الذى تزعم أديس أبابا أنها ترفضه، والحقيقة أنها تسعى عبر ممارساتها الهادفة لتحويل المياه إلى سلاح جيواستراتيجى أو ورقة ضغط على مصر والسودان، أو بالاستيلاء على أراضى الدول المجاورة إلى فرض «استعمار إثيوبي» وتحاول تغطية فشلها وأزماتها الداخلية بافتعال أزمات وتصديرها لدول الجوار، فضلًا عن ممارسة حملات مُمنهجة ومكثفة من الكذب والتضليل تحاول من خلالها تقمص دور الضحية أمام المجتمع الدولي، بينما هى فى حقيقة الأمر الجانى والمتهم الأول. هذا حديث الحقائق .. لعلهم يفقهون!!