يشهد قطاع النقل الجوي مرحلة من أكثر مراحله تعقيدًا منذ عقود، مع تراكم تحديات مالية وتشغيلية وتنظيمية وبيئية تعيد تشكيل قواعد اللعبة أمام الشركات والحكومات وصنّاع القرار. وفي خضم هذه التحولات، تواصل «إياتا» إصدار بياناتها وتوصياتها وتقاريرها التي ترسم صورة دقيقة لما يواجهه القطاع اليوم، وما يحتاجه ليضمن استدامته ونموه في السنوات المقبلة. اقرأ أيضا| «إياتا»: 7.9 دولار ربح من كل راكب.. والشحن الجوي يفقد بريقه ومن خلال مجموعة البيانات الصادرة عن «إياتا» حول القضايا التنظيمية والتشغيلية والبنيوية، تتضح خريطة متشابكة من التحديات التي تمتد من سلاسل التوريد والصيانة إلى البنية التحتية الأوروبية، ومن تكاليف الوقود والانبعاثات إلى الأعباء المتعلقة بالمسافرين غير المقبولين، وصولًا إلى فجوة التحول الرقمي والتشريعي في العديد من الأسواق. ويهدف هذا التقرير إلى تقديم قراءة شاملة ومترابطة لأبرز هذه القضايا، عبر تحليل متعمّق للمواقف التي عبّرت عنها «إياتا»، ودمجها في رؤية واحدة توضّح أين تقف صناعة الطيران اليوم، وما العقبات الكبرى التي يتعين تجاوزها. سلاسل التوريد المتعثرة تُعد أزمة سلاسل التوريد واحدة من أكثر الإشكاليات إلحاحًا التي أكدت عليها «إياتا» خلال اجتماعاتها الأخيرة، إذ يعاني القطاع من نقص غير مسبوق في توفر قطع الغيار والمواد الحيوية لصيانة الطائرات. وقد أدى ذلك إلى زيادة عدد الطائرات غير القادرة على الطيران، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على برامج التشغيل والالتزام بالجداول الزمنية، ويرفع تكاليف الصيانة ويزيد من معدلات التأخير ويضغط على شركات الطيران التي تخوض سباقًا للحفاظ على جاهزية أساطيلها. وتشير «إياتا» إلى أن أثر الأزمة لم يعد مقتصرًا على الشركات، بل امتد إلى المسافرين الذين يواجهون اضطرابات تشغيلية وبنية تحتية لا تواكب الطلب المتزايد. وتعتمد معالجة الأزمة على تعاون وثيق بين المصنعين ومقدمي الخدمات وشركات الطيران، مع ضرورة تبني نهج أكثر شفافية من الشركات المصنعة التي تُلام على بطء تسليم قطع الغيار وعدم الالتزام بالجداول المحددة. أزمة مراقبة الحركة الجوية من أبرز الملفات التي فتحتها «إياتا» هو الوضع المتدهور لمراقبة الحركة الجوية الأوروبية، خاصة في ظل التحذيرات المستمرة من الأعطال ونقص الكوادر وتضارب خطط التحديث. وقد أدى ذلك إلى تراكم أعداد كبيرة من الرحلات المتأخرة، وأصبحت أوروبا واحدة من أكثر الأقاليم تأثرًا بضعف خدمات المراقبة الجوية مقارنة بحجم الطلب والعمليات. وتؤكد «إياتا» أن قارة تمتلك بنية اقتصادية متطورة مثل أوروبا لا يمكن أن تستمر بهذا المعدل من الاضطراب، وأن غياب خطط الإصلاح الشامل يهدد القدرة الاستيعابية للمجال الجوي، ويرفع التكاليف التشغيلية على شركات الطيران، ويؤثر على ثقة المسافرين. ويزداد التحدي صعوبة مع توقعات الطلب القياسية في المواسم القادمة، ما يجعل إصلاح الأنظمة ضرورة عاجلة لا تحتمل التأجيل. تكلفة الوقود المستدام لا يمكن الحديث عن مستقبل الطيران دون الوقوف أمام ملف الوقود المستدام SAF، وهو العنصر الأكثر أهمية لتحقيق هدف الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050. ورغم التقدم الذي تحقق، تؤكد «إياتا» أن أسعار الوقود المستدام لا تزال مرتفعة بصورة غير منطقية بنسبة تصل إلى خمسة أضعاف سعر وقود الطائرات التقليدي. هذا الارتفاع يضع شركات الطيران تحت ضغط مالي كبير ويؤخر التوسع في استخدام SAF على نطاق واسع، وهو ما يجعل الصناعة عالقة بين الالتزام البيئي من جهة، والتحديات الاقتصادية من جهة أخرى. وتشدّد «إياتا» على ضرورة دعم الحكومات للإنتاج المحلي وتحفيز الاستثمار في التكرير وتوفير الحوافز الضريبية، مشيرة إلى أن الهدف لن يتحقق ما لم يصبح الوقود المستدام خيارًا اقتصاديًا وليس بيئيًا فقط. وفي ظل القيود المفروضة في بعض المناطق، خاصة أوروبا، تجد الشركات نفسها مطالبة برفع نسب استخدام SAF دون توفر الكميات المطلوبة أو الأسعار المقبولة، ما يجعل الصناعة في مواجهة سياسية واقتصادية مفتوحة. المسافرون غير المقبولين ملف المسافرين غير المقبولين (INADs) يشكل أحد أكثر القضايا التي تتحمل شركات الطيران تكلفتها المباشرة رغم عدم مسؤوليتها عنها. ووفق ما أوضحته «إياتا»، فإن الحكومات تنقل عبء هذه الحالات إلى شركات الطيران التي تضطر لإعادة المسافر، ودفع تكلفة النقل والإقامة والمرافقة، إضافة إلى مواجهة مشكلات تنظيمية وقانونية متفاوتة بين دولة وأخرى. وترى «إياتا» أن الحل يكمن في تعزيز التعاون بين الحكومات وشركات الطيران على مستوى البيانات وإجراءات التحقق المسبق من التأشيرات، إضافة إلى إقرار نظام دولي موحّد يقلل من النزاعات والمسؤوليات غير العادلة. وتعكس هذه القضية حجم الفجوات القانونية بين الدول، وهي فجوات لا تزال الصناعة تدفع ثمنها. تسريع التحول الرقمي يبدو التحول الرقمي واحدًا من المفاتيح الأساسية لتقليل الأعباء التشغيلية وتسهيل السفر، لكن العديد من الأسواق لا تزال متأخرة في تنفيذ الأنظمة الحديثة للتخليص الرقمي للمسافرين، رغم أن التجارب المتقدمة أثبتت قدرتها على تقليل التكاليف وتسريع الإجراءات ورفع الثقة بالبيانات. وتدعو «إياتا» الحكومات إلى توحيد المعايير الإلكترونية وتطبيق أنظمة الهوية الرقمية والسفر المسبق، مشيرة إلى أن هذا التحول بات ضرورة وليس رفاهية، خاصة مع النمو المتوقع في أعداد المسافرين خلال العقد القادم. ويعد تحسين البيانات بين المطارات وشركات الطيران والحكومات محورًا أساسيًا لتحقيق هذا التطور. التنظيمات المرهقة للشركات يشير عدد كبير من البيانات الصادرة عن «إياتا» إلى أن التدخلات الحكومية المتزايدة، خاصة تلك التي تفرض رسومًا إضافية أو تضع قيودًا تشغيلية، أصبحت تمثل عبئًا إضافيًا على الصناعة. وترى «إياتا» أن بعض السياسات لا تأخذ في الاعتبار طبيعة عمل شركات الطيران، ولا حساسية التكاليف التشغيلية، ولا أثر هذه التدخلات على القدرة التنافسية. ويشمل ذلك رسوم الكربون غير الموحدة، والتشريعات البيئية المتباينة، والمطالبة المستمرة برفع مستويات الامتثال في وقت يعاني فيه القطاع من ضغط مالي غير مسبوق. وترى الجمعية أن النقل الجوي جزء أساسي من البنية الاقتصادية العالمية، وأن السياسات يجب أن تحفز نموه بدلاً من أن تعرقله عبر فرض تكاليف جديدة أو تطبيق معايير متناقضة من دولة إلى أخرى. رؤية نحو المستقبل رغم أن الصورة التي ترسمها «إياتا» تبدو مليئة بالتحديات، فإنها تحمل أيضًا رؤية واضحة نحو المستقبل، تقوم على التعاون الدولي وتطوير البنية التحتية وتعزيز الابتكار وتحفيز الاستثمار. وتؤكد «إياتا» أن الصناعة قادرة على تجاوز المرحلة الحالية إذا توفرت الإرادة السياسية، وتعاون المصنعون، وتكاملت الجهود في مجالات الصيانة والرقمنة وانبعاثات الكربون وإدارة المجال الجوي. وفي ظل التوقعات بنمو أعداد المسافرين عالميًا خلال العقد المقبل، يصبح نجاح هذه الرؤية أكثر أهمية لضمان قدرة القطاع على تلبية الطلب وتقديم تجربة سفر آمنة وفعالة ومستدامة. وتبقى الرسالة الأساسية التي تحملها تقارير «إياتا» واضحة: مستقبل الطيران لن يُصنع بقرارات منفردة، بل بشراكات قوية وتنسيق عالمي يربط الحكومات والصناعة والمستهلكين في منظومة واحدة.