التقرير الأخير لوكالة فيتش للتصنيف الائتماني، الذى أبقى على التصنيف السيادى لمصر عند 'B' مع نظرة مستقبلية مستقرة، اعتبره الجميع شهادة ثقة فى مسار التعافى الذى اختاره الاقتصاد المصري، وهو كذلك، شخصيًا وكما قرأت مبشرات التحسن قرأت أيضًا حجم الفرص المبطن بها التقرير، فالتقرير يتجاوز مجرد تأكيد الاستقرار، ليكشف عن آليات نمو نوعية تضمن تحقيق قفزة فى الناتج المحلى الإجمالى إلى 5.2% فى العام المالى 2026/2025، وهو نمو مبنى على أسس هيكلية قوية لا على مجرد حلول مؤقتة وذلك كله بفضل إجراءات البنك المركزى برئاسة حسن عبد الله. شهد الاقتصاد المصرى نجاحاً غير مسبوق فى تحصين جبهته الخارجية بفضل التدفقات النقدية الضخمة. فقد تجاوز تأثير صفقة رأس الحكمة مجرد توفير السيولة؛ حيث كان بمثابة تدخل هيكلى لمرة واحدة أحدث تحسناً جذرياً فى ملف الدين الخارجي. ساهم تحويل جزء من الودائع الأجنبية إلى استثمار مباشر فى تقليل الالتزامات الخارجية السائلة، مما أزال ضغطاً كبيراً عن كاهل الخزانة العامة وقلل بشكل كبير من مخاطر إعادة التمويل. هذا التطور المالى النوعي، المدعوم بالالتزام ببرنامج صندوق النقد الدولي، خلق بيئة جاذبة لعودة رؤوس الأموال (الأموال الساخنة) للاستثمار فى أدوات الدين المحلي، مما عزز من قوة الجنيه المصرى وأسهم فى استقراره. هذا الاستقرار فى سعر الصرف هو الداعم الأول للنظرة المستقبلية المستقرة التى منحتها «فيتش»، مشيرة إلى أن مصر نجحت فى تجاوز حاجز الثقة النفسى لدى المستثمرين الدوليين. تُعد التوقعات بانحسار الضغوط التضخمية هى المفتاح الذهبى لتحرير الموازنة الحكومية، والتى توقعت فيتش فى تقريرها أن ينخفض معدل التضخم السنوى بشكل ملموس ليلامس 10.6% بحلول منتصف عام 2026. هذا النجاح فى احتواء الأسعار يمنح البنك المركزى المصرى مجالاً ل «المناورة» وبدء التحول نحو خفض أسعار الفائدة بعد إجراءات حثيثة اتخذها البنك المركزى من الخفض ثم الانتظار لقياس الأثر. هذا التخفيف ليس مجرد خطوة فى السياسة النقدية، بل هو قرار له أبعاد مالية عميقة؛ فخفض أسعار الفائدة يقلل بشكل كبير من تكلفة خدمة الدين التى كانت تستنزف جزءاً كبيراً من الإيرادات، هذا التوفير فى بند خدمة الدين يحرر مساحة مالية حيوية، تمكن الحكومة من توجيه المزيد من الإنفاق نحو الاستثمار الرأسمالى والمشاريع التنموية، مما يعزز قدرتها على تحقيق الهدف الطموح بخفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى لتصل إلى حوالى 78.9% فى عام 2026. رهان على البشر وضمن ما استطعت استخلاصه من التقرير أن الرهان الحقيقى للاقتصاد المصرى يكمن فى طاقته الشبابية الهائلة وتحولها إلى قوة إنتاجية رقمية. حيث تتوقع فيتش سوليوشنز أن قطاع تكنولوجيا المعلومات والخدمات الرقمية سيحقق نمواً استثنائياً. هذا النمو يقوده شقان، أولهما، الطلب الاستهلاكى المتنامى إذ تستغل مصر الميزة الديموغرافية لأجيالها الشابة المدمنة على التكنولوجيا، والتى تدفع نمو سوق الإلكترونيات الاستهلاكية بقوة، ويعد دعم هذا الطلب بآليات التمويل الحديثة مثل «اشترِ الآن وادفع لاحقاً»، وتسهيل التجارة الإلكترونية، مساحة شاسعة من الطلب الذى يشجع على التوسع فى التصنيع والتجميع المحلى للأجهزة، مما يقلل من فاتورة الواردات ويحسن ميزان المدفوعات. الثانية هى القدرة التصديرية التنافسية: الأهم هو تحول هذا الاستهلاك المحلى إلى أساس لتصدير الخدمات الرقمية، ولدى مصر ميزة تنافسية واضحة فى قطاع التعهيد و تعهيد خدمات تكنولوجيا المعلومات، مدعومة بتوافر كوادر شابة بتكلفة تنافسية وإتقان للغات أجنبية. هذا يمثل مصدراً جديداً ومستداماً للإيرادات الدولارية، بعيداً عن تقلبات السوق العالمية للموارد الطبيعية. كما يتجسد هذا التوجه فى الاستثمارات الحكومية الموجهة لتطوير «الصحة الرقمية»، مما يفتح آفاق نمو غير تقليدية فى قطاع الرعاية الصحية ويحسن من جودة الخدمات المقدمة للمواطنين. فى الختام، يُرسل تقرير فيتش رسالة واضحة مفادها ان الاستقرار المالى الذى تحقق بفضل التدفقات الدولارية والإصلاحات الجريئة يمثل الآن منصة انطلاق للنمو المستدام. وان الجمع بين الذكاء المالى (خفض الدين والتضخم) والطاقة الديموغرافية (الشباب والتكنولوجيا) هو المخرج الذى يمنح توقعات ال 5.2% مصداقية قوية، ويجعل مصر تتطلع بثقة نحو الحصول على ترفيع ائتمانى جديد فى المستقبل القريب، مدفوعة بنمو هيكلى يتسم بالجودة والمرونة.