عباد حسين إن أردت الحديث عن تجربتى فى كتابة القصة القصيرة سأصفها بأنها خطط هروب مستمرة، ومحاولات متعثرة أدخلتنى فى دوامة لا نهاية لها؛ لولا أن نشرت عملى الأول: «ذاكرة الفم الملوّن». لم أكن أتعامل مع كتابة القصص بجدية؛ فكلّما انقطعت عن روايتى الأولى، التى لم ترَ النور حتى اليوم، أستعيدُ لياقتى بكتابة القصص قبل العودة إليها، وهذا فخ - وقعت فيه لعامين كاملين - نتجت عنه هذه المجموعة. بدأتُ تمارينى اللياقية بكتابة اليوميّات نزولًا عند نصائح كتب الكتابة الإبداعية ورغم استفادتى منها، لا أفضّل غالبًا اتّباعها ومع مرور الأيام، تشكّلت هذه اليوميات دون وعيٍ منى، لتصبح قصصًا قصيرة، وربما يعود ذلك إلى خوفى من تعرية نفسى أثناء الكتابة، ما جعل بدايتى فى تلك الفترة فاشلة تمامًا ولا أزعم أنّى نجحت بنشر «ذاكرة الفم الملوّن»، لكننى أعطيتُ خلالها كل جهدى ووقتى على مدى ثلاث سنوات بشكل متقطع كنت أرى أن كل قصة تحدٍّ جديد، وبداية منفصلة عمّا سبقها، وعلى كل قصة أن تكون مختلفة فى الأسلوب والأفكار. أنجزتُ أكثر من خمسين قصة تقلّص عددها لاحقًا. ففى صيف 2023 وقّعتُ عقدًا مع دار نشر، كانت المجموعة تضمّ 26 قصة، لكن مراجعات أصدقائى القاسية وتأكيدهم لى ألّا أستعجل جعلتنى أتردّد، ورغم تأكيد الناشر أن قصصى جيّدة ولا يوجد داعى للمبالغة فى البحث عن مثالية لن أجدها يومًا، طلبتُ فسخ العقد، وتمّ بطيب نية. كانت سنة 2023 مخيّبة، لكننى نجحت فى نشر أول قصة لى «عنزة جميلة فى بهو الأدب» مع مجلة «سرد أدبي» ولقت مقروئية جيّدة، أضفتها للمجموعة. فى 2024 تثاقلتُ أمر النشر، وانشغلتُ بالكتابة دون أن أقرّر مصير قصصى، رغم يقينى أننى سأنشرها يومًا ما، وكل ما شغلنى هو أن أكون وفيًّا لشخصياتى، فأجهدتُ نفسى بالبحث عن تفاصيلها. أتذكّر قصة كتبتها عن عاملٍ باكستانى يعمل فى ورشة إصلاح السيارات، لم أقتنع بها؛ فهى لم تحمل روحه ولا سأمهِ من الحياة. كما حدّثنى عندما زرته فى الورشة وتعرّفت عليه عن قرب لكنى كنتُ محظوظًا؛ فالسائق الذى أتنقّل معه بين موقع عملى الميدانى ومكتبى، باكستانى الجنسية، كنت أتحدّث معه يوميًّا، وألحّ عليه بذكر تفاصيل الحياة فى باكستان، حدّثنى عن إجازاته هناك، وطموحه فيما يخص مزرعته، وغداء الجمعة مع عائلته، وعن ابنه المتسكّع فى الشوارع، والذى يرفض الالتحاق بإحدى الجامعات. خلال تلك الفترة كنت أقرأ سيرة الشاعر محمد إقبال وأشعاره، وأستمع لنصرت فاتح على خان. لكن بعد تلك التجربة الممتعة والمجهدة عدتُ إلى كتابتها وفشلتُ مرّة أخرى، لم يصلنى إحساسها ولا روحها، فاستبعدتها مع قصص أخرى. كتبتُ قصصًا جديدة بين عامى 2024 و2025، لتصبح المجموعة بشكلها الأخير تضم 14 قصة فقط. اليوم، وبعد صدور المجموعة عن «منشورات جدل»، يلوح سؤال طالما تجاهلته: هل حان الوقت لأعامل القصة القصيرة كمشروع حقيقى، لا مجرد منزلق أقع فيه أو خطة هروب؟ خصوصًا مع حضورها ومكانتها المتوارية فى المشهد الثقافى خلال السنوات الأخيرة وباعتبار أننا نعيش فى عصر خنقتنا فيه الحياة والانشغالات وضغط الأعمال عن التفرّغ لمشاريع كتابة طويلة، قد تستغرق سنوات. فى الختام، أودّ أن أعبّر عن امتنانى لعائلتى وأصدقائى الذين يسألوننى منذ بداية وقوعى فى شراك الكتابة: «متى تصدر كتابك؟» ولأصدقائى الذين منحونى وقتهم لمراجعة هذا العمل بشكل مستمر؛ نورة، وسمية، ومحمد، ومرتضى، لهم جزيل الشكر وعظيم الامتنان.