لم يعد خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار حادثًا عابرًا ولا استثناءً طارئًا، بل تحوّل إلى منهج سياسى دائم، تُدار به الصراعات، وتُهدر فيه المواثيق، وتُراق على أثره دماء الأبرياء دون أى ضمير أو خوف من حساب، فكل هدنة تُعلن، سرعان ما تُنسف بالقصف، وكأن العهود لم تُكتب، وكأن الاتفاقيات لم تُبرم، وكأن حياة المدنيين لا وزن لها فى ميزان القرار. الوفاء بالعهد فريضة إلهية قبل أن يكون التزامًا سياسيًا، يقول الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ الإسراء: الآية 34 ، ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1) فالعهود فى ميزان السماء ليست أوراقًا تفاوضية تُستخدم ثم تُلقى، بل مسئولية يُسأل عنها الأفراد والأمم. وهم لا عهد لهم ليس فى التاريخ الحديث فقط، ولكن منذ عهد رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتاريخنا خير شاهد، فقد كانت بنو قريظة قبيلةً عربيةً تدين باليهودية تسكن المدينةالمنورة، وقد دخلت بعد الهجرة النبوية فى ميثاق مكتوب مع رسول الله ضمن ميثاق المدينة، يقضى بالتعايش السلمى، وعدم الاعتداء، وعدم مؤازرة أعداء المسلمين، والدفاع المشترك عن المدينة عند التعرّض لأى خطر. وخلال غزوة الخندق (الأحزاب) سنة 5 ه، بينما كانت المدينة محاصَرة من قريش وغطفان وحلفائهم، وُجِّه الاتهام إلى بنى قريظة بنقض العهد والتعاون مع الأحزاب سرًّا، بما شكّل تهديدًا مباشرًا لأمن المدينة من الداخل فى أخطر لحظات المواجهة. وبعد انصراف الأحزاب، توجّه النبى إلى بنى قريظة فحاصرهم، ثم قَبِل بتحكيم سعد بن معاذ رضى الله عنه فيهم، فحكم فيهم بحكم وافق ما فى شريعتهم آنذاك فى التوراة فى شأن الخيانة العسكرية زمن الحرب، وفى واقعة أخرى خرج يهود بنو النضير من المدينةالمنورة فى السنة الرابعة للهجرة (626 م) بعد أن نقضوا عهدهم مع المسلمين وحاولوا قتله صلى الله عليه وسلم. وظلّت هذه الوقائع فى كتب السيرة مثالًا تاريخيًا على خطورة نقض العهود حين يتحول إلى تهديد وجودى فى زمن الصراعات. غير أن إسرائيل، عبر تاريخها الحديث، أثبتت أن نقض العهود جزء أصيل من بنيتها السياسية، لا عارضًا طارئًا. تُوقّع اليوم، وتغدر غدًا، ولنا العديد والعديد من الشواهد والمواقف على مدار تاريخها السياسى، فقد كرّست إسرائيل نمطًا متكررًا من نقض العهود والاتفاقات، بدءًا من قرار التقسيم رقم 181 عام 1947 الذى وافقت عليه شكليًا ثم تجاوزته عسكريًا مع إعلان قيام الدولة عام 1948 وتمدّدها على مساحات أكبر من المقررة، وارتكابها مجازر أدت إلى تهجير أكثر من 750 ألف فلسطينى فيما عُرف بالنكبة، ثم اتفاقيات الهدنة عام 1949 التى لم تلتزم بروحها ولا بنصوصها واستمرت بعدها الاعتداءات الحدودية، مرورًا بقرار مجلس الأمن 242 عقب حرب 1967 الذى ينص على الانسحاب من الأراضى المحتلة والذى لم تُنفذه إسرائيل حتى اليوم فى القدسالشرقية والضفة الغربية والجولان، ثم اتفاقية كامب ديفيد مع مصر التى تأخر تنفيذ مراحلها الأولى وجاء الانسحاب منها تحت ضغوط دولية كثيفة، ثم اتفاق أوسلو عام 1993 الذى تعهّدت فيه إسرائيل بوقف الاستيطان وتمهيد الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية، لكنها ضاعفت أعداد المستوطنين بعده، ثم اتفاق واى ريفر عام 1998 الذى لم يُنفذ منه سوى جزء ضئيل، وصولًا إلى ما سُمى بالانسحاب من غزة عام 2005 الذى أبقت بعده إسرائيل سيطرتها الكاملة على الجو والبحر والمعابر وفرضت حصارًا شاملًا، ثم سلسلة التهدئات المتكررة فى غزة أعوام 2008 و2012 و2014 و2021 وما بعدها، والتى جرى خرقها جميعًا بالقصف والاغتيال والتوغلات، بالإضافة إلى الانتهاكات المستمرة للاتفاقات الإنسانية الخاصة بحماية المدنيين والمستشفيات والصحفيين، وهو ما يجعل نقض العهد سلوكًا ثابتًا فى الممارسة الإسرائيلية لا استثناءً عابرًا. والأمر هنا لا يتوقف عند حدود السياسة، بل يتجاوزها إلى جريمة دينية وأخلاقية مركّبة؛ لأن القتل بعد العهد إثم عظيم، وقد حسم القرآن الكريم حرمة الدماء بقول الله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ المائدة: 32. فأى فساد فى الأرض أعظم من استباحة أرواح الأطفال والنساء والشيوخ بعد إعلان وقف إطلاق النار؟ سياسيًا، فإن خرق الهدنة المتكرر يفضح زيف وكذب كل الادعاءات الإسرائيلية بالسعى إلى السلام، ودينيًا، فإن الجزاء الإلهى لمن ينقض العهود واضح لا لبس فيه، يقول الله عز وجل: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ المائدة: 13. وقسوة القلوب هى أخطر ما يُصاب به مجتمع أو دولة؛ لأنها تسقط آخر الحواجز بين الإنسان والجريمة. كما يقول سبحانه محذرًا من الغدر بعد التوثيق: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ النحل: 91. فأى يمين أوثق من اتفاق يهدف - نظريًا - إلى حقن الدماء؟ وأى نقض أشنع من نقض يقود مباشرة إلى المقابر؟ إن ما يجرى اليوم ليس مجرد صراع عسكرى على أرض، بل سقوط شامل، حين يُكافأ من ينقض العهد، ويُحاصر من يطالب بالحق، ويُختزل الضحايا فى أرقام بلا أسماء ولا وجوه. وهنا تتحول المأساة من حرب إلى إدانة أخلاقية للعالم بأسره. ويظل الوعيد الإلهى ماثلًا أمام الظالمين مهما طال الأمد: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ إبراهيم: 42، فالعدالة الإلهية لا تسقط بالتقادم ولا بمرور الوقت، ولا تخضع لموازين القوى، ولا تُؤجل إلى ما لا نهاية