بقلم: جينا بيريولت ترجمة: د. محمد غنيم أخذتنى أمى معها إلى تلك الحفلة لأن عيد ميلادى الثالث عشر كان بعدها بيومٍ واحد فقط، وقالت إننا نستطيع تخيلها كحفلة لي، حفلة عيد ميلاد لا يعرفها إلا نحن الاثنتان. ابتعدتُ عن أمى والأصدقائ الذين يحتضنونها، وخرجتُ وحدى إلى الغرف التى كان فيها الغرباء كلما رفعتُ بصري، التقيتُ بنظرة، ولم يكلمنى أحد مازحًا كما يفعلون مع طفل، وعندما اقترب الرجال مني، عاملونى بنوع من المعرفة، كما لو كنتُ غارقة فى التجارب التى تخيلتها فحسب. أستطيع أن أتخيل نفسى فى ذاكرتى كما لو كنت أراقب فتاة أخرى من زاوية غرفة: كيف بدت فى ثوب أخضر باهت يلتصق بالثديين الصغيرين والوركين المستديرين، لم يعد قماشًا مجعدًا أو مطويًا، ولا قماشًا مستقلاً بذاته، بل كان من النوع الذى يطاوع الجسد الفتى الذى كان قد بدأ للتو يعلن عن نفسه ، أو رغبته، أو إرادته. وأستطيع أن أرى كيف التفت لتُغوى بنظرتها الجانبية ، شعرها الأشقر قصيرًا حتى كتفيها، بلا ضفائر، ولا مشابك شعر، ويمكننى أن أسمع جزءًا من صوتها، صوتًا يتغير كصوت صبي، لكن صوتها يتغير بدافع الترقب، ليس مرتفعًا ومترددًا كصوت الطفل. بقيتُ أنا وأمى منفصلتين أتذكر أننى رأيتها وسط مجموعة الضيوف فى غرفة أخرى بعيدة، وأتذكر أننى رغبت فى أن أكون معها، لأنها، كما فى طفولتي، كانت تحمينى من الأشخاص الذين يربكونني، وأتذكر أيضًا أننى كنت سعيدة بتلك المسافة بيننا. وبينما تُصدر أساورها رنينًا على معصميها، كانت تُلقى التحية على المضيفة وعلى النساء وتثنى على ذكاء الرجال وحكمتهم، فتُسحر الجميع. وصل والدى متأخرًا إلى الحفلة كنا نتشابك الأيدى ونتجول فى المكان، نتناول المقبلات ونشرب ما يُقدم لنا فى أكواب كثيرة ترن، وعندما شبعنا، ليس فقط من الطعام والشراب، بل من الأصوات الصاخبة ونوبات الضحك، وجدنا غرفةً خاليةً من أى أحد. جلسنا على أريكة عتيقة، ظننتُ أنها ثمينة جدًا لدرجة لا ينبغى الجلوس عليها، أريكة مخملية زرقاء داكنة، منحنية كالهلال، لكننا جلسنا هناك، ربتنا على بطوننا، وتنهدت تنهيدات طويلة من فرط المتعة. دخلت الشابة بخجل، كما لو كانت تطلب معروفًا من أشخاص لم يروها من قبل. بدت غير مستقرة على قدميها، وخمنت أن ذلك بسبب المشروبات التى تناولتها. جلست على الطرف الآخر من الأريكة، وعلى الجانب الآخر من والدي، ثم عرفت أنها لحقت بنا. قال لها: «هذه ماري، ابنتي» لكن كلامه كان بمثابة تحذير لا تعريف، ولم يذكر لى اسمها. سألها: «كيف حالكِ؟» فقالت: «أنت تعرف كيف حالي.» عند ذلك التفت والدى إليّ قائلاً، وكان فى كلامه نبرة الأمر لا الرجاء: «ماري، هل ستذهبين؟ أين أمك؟» لكنه لم يكن شخصيةً قويةً لتأمر كان فى حلقه خشونةٌ كسعالٍ مُكبوت، وعيناه مُرتعشتان. إن فقد سلطة الأب فى تلك اللحظة، فقد اكتسب سلطةً أخرى، وهى سلطة الرجل الذى اكتسب خبرةً تفوق معرفة عائلته ما كان يعرفه عن حياته ولم تكن عائلته تعرفه بدا لى وكأنه يمنحنى تجاربى الخاصة التى لا تُحكى. كان الأمر كما لو أنه منحنى حريةً مطلقةً فى التعامل مع العالم. لم أستطع النهوض وتركهما. ظننتُ أننى قد أفعل، لكننى لم أستطع. لم تنتظرنى حتى أرحل. قالت له بصوت خافت، ونظرتها الجانبية على يدها وهى تمسح مخمل الأريكة: «أريد أن أسألك إن كنتَ قد أتيتَ لرؤيتى يومًا ابتعدتُ حتى ترى عندما تأتى أننى لم أكن أنتظرك، لكن بعد أن انتقلتُ تمنيت لو بقيتُ فى نفس المكان وواصلتُ الانتظار.» لم تعد تلك الشابة الخائفة التى تخشى والدي بل كانت امرأة فاتنة، بفخذين كبيرين تحت فستانها الحريرى الوردي وعندما أدرك والدى أننى رأيتها كما رآها فى الماضي، ولا بد أنه لا يزال يراها فى الحاضر، نهض وابتعد عنا. جلستُ معها لبضع دقائق، دون أن أنطق بكلمة، كما لو كنت مع صديقة أفصحت لى عن سرّها كانت تداعب الأريكة، وتتحرك يدها فى دوائر صغيرة نحو المكان الفارغ الذى كان والدى يجلس فيه. عندما تركتها، لم أتبع والدي أردتُ أن أجد أمي، بدلًا من ذلك، وأن أضمّها بين ذراعى طلبًا للمغفرة. شعرتُ أننى لن أستطيع النظر فى عينى أمى لفترة طويلة، ولم يكن ذلك لأننى أعلم أنها تعرضت للخيانة ولم أستطع إخبارها فبعد اكتشافى لأبى وتلك المرأة، لم أكن قد فكّرتُ فيها. كان الضيوف يتدفّقون جماعاتٍ نحو البيانو الكبير، حيث كان الفنان يجلس ليعزف انضممتُ إليهم، فإذا بى أُدفَع إلى الأمام قريبًا منه، شابٌّ بشعرٍ فضيّ ناعم وابتسامةٍ تكشف عن أسنانٍ صغيرة. سمعتُ أنه ابن عمّ المضيفة، مغنيٌ ذاع صيته فى النوادى الليلية والحفلات الكبيرة. كانت ربطة عنقه السوداء تتمايل وهو يتبادل أطراف الحديث مع الضيوف المتجمّعين حول البيانو. كانت الأغنية التى غناها - بصوته المتقلب كوجهه، يرتجف فى لحظة، ثم يهدأ فى أخرى - تدور حول ازدياد عجز العشاق عن التعبير عن رغباتهم. كان هناك خلل ما فى حياة العشاق فى نهاية كل مقطع، ثم كان يدق على المفاتيح ليؤكد على مآسيهم العبثية. كانوا جميعًا متلاصقين، ثلاثة منهم فى حلقة حول البيانو، وكانوا جميعًا يضحكون على كل هزيمة للحبيبين كانت عيونهم مغمضة بشدة من شدة الضحك، أو تسبح جانبًا، وكان أحدهم يضع سيجارته بين شفتيه ليجذب الدخان جفنيه. كانوا يُشيحون بنظرهم عن أعين الآخرين. كانت أمى بين الحشد رأيتها على البيانو، وجهها محصور بين وجهين آخرين. كانت تُحرك عينيها وتُصدر صوت طقطقة بلسانها وتضحك، كغيرها ممن حولها، وشعرتُ بفيض من الحب والاهتمام بها. كانت تحظى بدعمٍ كبير، ولكن مهما اجتمع الناس على ذلك البيانو وفى كل مكانٍ آخر للتقليل من شأن العشاق، كنتُ أعلم أن كل المحاولات ستنتهى بالفشل.