محمد عبد الرحمن السيد على شاشة تلفاز قريبة فى محل مجاور كان الفلكى الشامى الكفيف يدَّعى علم الغيب، ويقول إن حركة بعض الأبراج ستتبدل قريبا، وإنه من حسن الطالع أن تقترن أنجم وتتراص كواكب فيضطرب مسبح السماء ثم بعد ذلك يسكن الجنون ويهدأ الصراع ويكف التخبط ضحك وهو يخبر المذيع أن عظماء سيموتون وأن بسطاء سيسعدون، شىء من البهجة لن يعكر صفو أنهار الخيبة والحزن الجارية. بينما صاحبنا ضجرًا يجلس بجانب الرصيف، يستأنس طعم القهوة غير المضبوطة، ويمحو مرارة حلقه برشفة من كوب ماء عكر، لم يشأ أن يعلق على سوئهما. ينظر لجانب آخر من كورنيش «جليم»، ويرقب اللا شىء منتظرًا. جلس فى ذلك المكان متهالك الكراسى متواضع التشطيب، لكونه الأقرب من نقطة اللقاء عند النفق الاتفاق أن يحضر فى الثالثة، ستمر به الأستاذة (نور) أخت الحاج (وهبة)، تأخذ منه أنفار الجمعية وينصرف، رغم أنه لا معرفة بينهما سوى رسائل الواتس، التى اقترحها الحاج لترتيب الحال ولا يعرف كيف زلت قدمه لصداع هذا المشوار، الحاج يعلم أنه يسكن فى أقصى الغرب بالعجمى، ومع ذلك أحضره من المصنع فى برج العرب لشرق المدينة رأسًا، وفى وقت ذروة النهار وحره اللاهب. لا يكره فى حياته إلا أيامًا مثل يومه هذا. - معلهش يا دكتور حسن، واجب عزاء سريع فى البلد لا مفر منه. لكن الجمعية؟! مال الناس. يقولها وكأن بلدته «قوص» فى آخر الشارع! وكأنه لم يتغيب عن خط الإنتاج لأسبوع! لكنه رجل أمين ومحترم، ورغم أنه قد شارف الستين فإنه أنشط من الشباب المعينين بالمصنع، وهذا بالأساس ما جعله يشترك فى هذه الجمعية التى لا يحتاجها؛ يدعم المجتهدين بطريقته. والناس لبعضها يا دكترة! يتململ ويفكر فى علته المنسية، محضر عهدة المخزن اللعين الذى حرره وكيل القسم هو خارج دائرة أى شبهة، لكنه يحلم بالعدل وعقاب المفسدين يا لك من أهبل! سوف يطبخونها يا سى نيلة؛ تمر حملة التفتيش المتواطئة فتكنس ما تراكم قبلها وبعدها تعود الفئران إلى اللعب. ينظر إلى عرض المالح غضبان آسفًا، الشمس تضرب بأشعتها رؤوس المعدمين، ولا تكاد تبصر فى الأفق طيرًا واحدًا يحرك جناحيه، ومع ذلك فحركة البناء الصاخب لم تتوقف، تنذر القواعد التى يعمل عليها حشد البنائين أمامه بهيكل خرسانى ضخم لن يترك فرجة على البحر إلا ويسدها. يفكر ماذا يبقيه هنا! يفكر لماذا لم يسافر إلى الخليج أو يهاجر إلى كندا مثل كثير من زملائه! وهو على العكس منهم يتحدث الفرنسية بطلاقة؛ تربية أعرق مدارس راهبات المحبة هل كان سيجد بغيته هناك؟! هو فقرى لا يحب المال، بل يقرف منه، أهبل! ينظر للزرقة الممتدة أمامه فيحدِّث نفسه أنه كفقمة بر مائية لا راحة لها فى بر ولا بحر. ويمر به عجوز يمسح الكورنيش سيرًا لبيع المناديل، يزعجه منظره، وفجأة يجلس بجواره ويسعل بشدة فيستأذن لشرب الماء، وبالمقابل يعطيه سيجارة فيرفضها متعللا أنه لا يدخن. فيضحك العجوز وينصرف عنه.. ويحدث نفسه أنه يشبه أحد أخواله الراحلين، ويصحو بداخله طفل منبوذ لم يعرف سوى الحزن والفقد. يكاد يبكى، يفكر فى عمره الذى انفلت منه كالموج هاربًا بالجزر، يفكر فيمن رحلوا ومن ابتعدوا ومن ألهتهم الدنيا، وهو يحيا فوق الأربعين حياة ما دون الرابعة! قال له محمود زميل القسم ومدرج الكلية:«الحياة ليست المرحومة والدتك التى ستحزن لهمك وتمسحه عنك، وليست خط إنتاج الأدوية الذى تفنى روحك فيه، تزوج يا أخى؛ فآدم لم يُخلق للوحشة والانفراد! وكأن الأمر بيده وهو يرفض؛ هو النصيب الذى لم يأتِ بعد، وهو تعب من الملاحقة والبحث عمَّن تفهمه وتحتويه وتعوضه ما فات، كأنه يفتش عن الإبرة فى كومة قش. - آسفة للتأخير، باص المصنع تعطل، دقيقة وأكون عند حضرتك. قرأ الرسالة وتمتم: «براحتك!». وتمر به فتاة تحترف التمثيل كمتسولة قابلها مرات فى الرمل، يعرفها بعباءتها السمراء والمنديل القماش الذى تمسح به دموعها ومخاط أنفها. تبتسم له، لا تبكى تذللًا، ويعطيها ساندويتشات غدائه التى لم يجد شهية لتناولها، تأخذها خجلة، وتلتفت بعد خطوات فتنظر له بامتنان تصله دقات الرابعة فى إذاعة الشباب، وهمزة الوصل لم تحضر بعد وهو يفكر فى الانصراف ويقرر أن يوكل المهمة غدًا لأى من أفراد وحدته الإنتاجية. يدفع حسابه وبقشيشًا للجرسون، ويدخل دورة المياه احتياطيًّا قبل رحلة العودة، الباص المكيف الذى يشق المدينة كعصا موسى سيكون باردًا عليه، ولن تتحمل مثانته الساعة التى سيبقاها محشورًا بداخله. ثم راح يغسل وجهه ناسيًا كونه يلبس نظارته الطبية، فضحك وهو يمسحها ويمسح وجهه جيدًا قبل أن يلبسها مجددًا، يبصر المزيد من شعيرات لحيته البيضاء وتغضنات تقاطيعه المتراكمة.. تجمد ضحكته على شفتيه المتشققتين. وتستوقفه رنات الهاتف المتلاحقة، ولا يرد. تقف على بعد خطوات خارج المقهى تلك الأنثى الهادئة وتمسك ببنتها الصغيرة التى تحاكيها، يستنتج من فوره أنها هى، يتقدم ويعرفها بنفسه، يسلمها الأمانة التى تُدخلها حقيبة يدها فورًا، ويدعوها بأدب جم أن تجلس لتشرب شيئًا هى وجميلتها، وتعتذر، ويصر، وتشكره بنظرة إجلال، ثم تحييه وتنصرف. ويمسح قطرات عرقه الثلجى ويشعر بخفقان فؤاده وبرودة أطرافه، فى قلب أتون يوليو! الآن تشكر للصيف صنيعًا! ماذا ينقصك إذا انهمر المطر وصوت الست فيروز: «شايف البحر شو كبير؟»؟! ويجلس مجددًا. فيمَ الاستعجال الآن؟! كان يطمح إلى العودة المبكرة ليلحق بمباراة كرة السلة التى حتمًا سيفوز بها ناديه المفضَّل: «سيد البلد»، وهى تحصيل حاصل فى كل الأحوال؛ حسم «سُمعة» ورفاقه لقب دورى السوبر والكأس، ولا ينقصهم هذا الموسم سوى دورى المرتبط.. وإلا فسيضع الأهلى لهم المسامير فى كعكعة الاحتفال! ليترك كل هذا الجدل العقيم الذى يتوارى خلفه بين صحبة المقهى فى لقاء الشهر. ليعُد لصاحبة الطيف البديع.. حضر هو جنازة زوجها قبل عدة أشهر. كم هى لطيفة وجميلة! كان عليه أن يسألها عن اسم الطفلة! كان عليه أن يُحضر لها قطعة شوكولاتة من الكشك المواجه لهم! يا لك من بائس يصطاد الحزن من ماء السواد! يُحدث نفسه بينما تصله رسالة جديدة منها، تشكره لذوقه فيصرخ فى أعمق أعماقه طربًا: «ولمَ لا؟!» ويطلب من الجرسون أى شىء بارد يروى عطشه، يقترح عليه ليمونًا بالنعناع، ويوافق. ويفكر كيف سيقنع الحاج (وهبة) أن يُوصل الجمعية بنفس الطريقة فى الشهر القادم. يضحك حتى يطفر الدمع من عينيه.