دبلوماسية الملك توت.. والحديث هنا عن فن اختيار توقيت ومكانة إحضار العالم بكل ألوانه إلى مصر، عاصمة التاريخ البشرى كما وصفها ملك إسبانيا . من بين مئات الحكام ممن جلسوا على عرش مصر، كان محمد على واحدًا ممن آمنوا بمكانة هذا البلد وقيمته التاريخية والجغرافية. فى هذا التوقيت كان النيل يلمع كممر مائى يربط بين إفريقيا وأوروبا، وهذا يعنى أن أهمية النهر برزت بشكل أكبر مما كان عليه الأمر منذ آلاف السنين. وفى أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر، شهد النيل رحلة انتقال لافتة للأخطار من مدينة سنار فى شرق السودان إلى قصر محمد على الجديد بمدينة الإسكندرية، إذ انتقل إلى هناك ضيف طويل القامة بشكل غير مألوف، وأقام فى حدائق القصر منتظراً القيام برحلة بحرية إلى أوروبا. وقع الاختيار على زرافتين صغيرتين كانت أمهما قد ماتت من قبل. ونُقلتا إلى مدينة الخرطوم بواسطة مركب، وبعد ذلك، استمرتا فى الإبحار نحو مدينة شندى فى شمال السودان، ومنها إلى الإسكندرية. قضت إحدى الزرافتين الصغيرتين صيف عام 1826 فى قصر محمد على الصيفى المطل على البحر المتوسط. وكانت أشهر الصيف تلك هى الأشهر الأخيرة التى تقضيها الزرافة فى إفريقيا. بحلول نهاية شهر سبتمبر من العام نفسه، أُعدّت رحلة انتقال الزرافة إلى مدينة مارسيليا فى فرنسا ونُظِّم حفل لاستقبالها. لم تعرف الزرافة أنها الأولى من نوعها فى التاريخ التى حظيت بحفاوة الوافدة الجديدة، بعد أن نُقلت بمركب عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا. وعند الوصول إلى أوروبا، ذهبت الزرافة فى رحلة جديدة للانتقال من مدينة مارسيليا إلى العاصمة باريس، وسارت وهى تتهادى متراً بعد متر إلى جوار حارسها. كانت الزرافة الإفريقية واحدة من أعظم المشاهير فى عصرها. ووصلت إلى مدينة ليون يوم الخامس من يونيو عام 1827. ما بدا لافتاً أن الطريق كان يزدحم بحشود كثيفة، فقد توافد أكثر من 30 ألف شخص لرؤية هذا الحيوان الإفريقى ذى العنق الطويل، الذى لم يروا مثله فى قارة أوروبا فى ذلك الوقت. كانت الزرافة هدية لفرنسا من حاكم مصر. كان دور الزرافة محدداً لكنه غير معلن، وهو محاولة كسب الرأى العام الفرنسى ومن ورائه الأوروبي، وفى اليوم نفسه الذى احتشد فيه الناس بمدينة ليون مندهشين بالهدية المصرية، كان محمد على يحقق مكاسب عسكرية فى اليونان بمجرد الوصول المهيب للزرافة إلى وسط ليون، حيث استخدم حاكم مصر كل الوسائل الممكنة لحشد الدعم الأوروبى لتحركاته. أما الزرافة فقدت تقبلت الدور الدبلوماسى والاستراتيجى الذى تؤديه. وهكذا، نجحت خطة محمد على فى بداية القرن التاسع عشر فى كسب الأوروبيين من خلال إرسال تلك الزرافة الإفريقية البديعة فى رحلة بحرية طويلة، من ضفاف نهر النيل جنوب مدينة الخرطوم إلى العاصمة الفرنسية باريس. كل هذا لأن محمد على توقع أن هذا الحيوان الإفريقى المدهش وغير المعروف بالمرة فى أوروبا سيؤدى دورًا دبلوماسيًا كبيرًا فى استمالة الرأى العام بالقارة العجوز. وتُلقى رحلة هذا الحيوان طويل العنق الضوء من زاوية مختلفة على مدى الترابط الذى يجمع البحر المتوسط بنهر النيل على مر الزمان. دبلوماسية قناع توت بين سطور هذه الرحلة التى رواها كتاب (زرافة محمد علي: من مجاهل إفريقيا إلى قلب باريس) للكاتب مايكل ألين، وأعاد الباحث النرويجى تارييه تفايت الإشارة إليها فى كتابه «النيل نهر التاريخ»، تفاصيل أعمق عن التفكير الدبلوماسى خارج الصندوق، تكشف عن حدث سياسى وثقافى كبير فى ذلك الوقت. لكنها عكست ذكاءً دبلوماسياً فى كيفية مخاطبة الآخر بلغة الإبداع. لغة قرأها الملايين على وجوه الحاضرين لحفل افتتاح المتحف المصرى الكبير من انبهار، وسبقها تلخيص رئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير لمشهد قمة شرم الشيخ لاتفاق السلام فى غزة، حين كان يتحدث فى حوار جانبى مع المبعوث الأمريكى قبل بدء القمة: «لم أشاهد هذا من قبل.. الناس أرادوا العمل، وهذا هو الفرق». هذه الدبلوماسية الناعمة نفسها، أحضرت الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ضيفاً منبهراً ببلد آمن ومعدل الجريمة منخفض فيه، وفتحت أبواب الاتحاد الأوروبى باستقبال حافل ولافت أمام الرئيس عبدالفتاح السيسي، وألزمت رئيس وزراء هولندا بعهد على نفسه بإعادة رأس من سلالة الملك تحتمس الثالث إلى مصر.. صحيح أن المصالح لا يمكن إغفالها، لكن لا مانع من أن تصبح الدبلوماسية الناعمة جسراً متزناً ومرناً للمصالح، وأوقفت ملكة الدنمارك فى لحظات صمت أمام تمثال توت عنخ آمون. دبلوماسية الابتسامة وأمان الشارع، دفعا رئيسى وزراء هولندا وبلجيكا إلى خلع رداء الرسمية والانطلاق رفقة زوجتيهما على ضفاف النيل للجرى وسط مشهد عفوى ليس غريبًا على شوارع مصر.. ورسالة إلى الآخر عن هذا النهر لمصر ولأبنائها وضيوفها. دبلوماسية الملك توت.. والحديث هنا عن فن اختيار توقيت ومكانة إحضار العالم بكل ألوانه إلى مصر، عاصمة التاريخ البشرى كما وصفها ملك إسبانيا.. أو كما وقفت ملكة الدنمارك فى لحظات تجلى أمام قناع الملك المصرى الشاب. وتبقى الصورة الأكثر ذهولاً متجسدة فى عبور شعب كامل بملايينه عبر بوابة الزمن، مستعيداً مشاهد من عظمة أجداده بالموسيقى، وإبداع هندسى وأزياء، ليجد مشاهير من رياضيين وفنانين عالميين من شتى بقاع الأرض، بروح فرعونية عبر حساباتهم الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي. ستظل كلمة السر فى التفكير خارج الصندوق بدبلوماسية ناعمة عرفها المصريون قديماً، تارة بالزرافة، وأخرى بالفن، وفى كل الظروف تجمعها قوة بشرية كامنة. لقطات ● فى إحدى المناسبات، كان الرئيس السيسى يتحدث عن نقطة بالغة الأهمية، أن المواطنين ما قبل 2011، وصل بهم الحال إلى فقدان الثقة فى بناء كوبرى أو طريق.. أو كما قالها الرئيس نصاً حينها: «الناس استكترت على نفسها طريق وكوبري.. تخيلوا.. وقالوا: لا دا كتير.. دا لسه بدرى قوى من الجهد والمثابرة». هذا الحديث كاشف بشكل جلى لما يمكن أن تفعله مباراة كرة قدم لمنتخب مصر، أو إشادة الرئيس ترامب بأمنها، أو كوبرى وطريق جديد أنهيا معاناة ساعات، أو احتفالات شعبية ورسمية بافتتاح متحف يحمل هوية أمة. ● عامان من الحرب فى غزة، تلقت فيهما مصر اتهامات بإغلاق معبر رفح، وحملات مسعورة أخرى، لكنها اختفت تماماً أمام مشهد واحد تجمعت فيه أسرة فلسطينية داخل القطاع تدندن بالعود فى حب مصر، وتشارك أبناءها فى الاحتفال بالمتحف. هذا رهان قديم متجدد، والمتغطى بمصر مستور. ويقول أحد المحللين العراقيين فى مقابلة تليفزيونية مؤخراً: المصرى يمكن أن يسامح فى إساءة لشخصه لكن فى حق بلده.. لا ولن يسكت. ● إبداعات شبابنا لا حصر لها، وكليات الهندسة تعج بعشرات الابتكارات فى مشروعات التخرج سنوياً.. تحتاج مزيداً من التفكير خارج الصندوق فى استغلالها. ● ما زلت أتذكر إحدى الأوراق البحثية لأستاذ أكاديمى فى إحدى جامعاتنا منذ سنوات.. اقترح ربط دراسة طلاب المدارس الثانوية الزراعية باستصلاح الصحراء.. تخصيص غرف سهلة التركيب والتفكيك يقضى فيها الطالب دراسته فى مواقع الزراعة، يطبق عملياً ما يدرسه، ومنها يحصل على عائد مادي، ثم تخصص له قطعة مستصلحة ولو بحق الانتفاع.. وهذه فكرة أخرى قديمة لكنها تبقى خارج الصندوق. ● السادة الوزراء، أدراج مراكزنا البحثية مشبعة بآلاف الأفكار والأبحاث الملهمة، وبشراكات مع شركات دولية ووطنية ستقفز مصر سنوات للأمام.. وهذه إدارة خارج الصندوق، كل فى مجاله .