وسألنى السؤال الشهير الذى يسأله أى مغربى لأى مصرى إذا تقابلا فى أى مكان فى العالم: قولى يا «هيشام» هل قابلت الفنان عادل «إيمام»! (عاشق القديم) السبت: عاشق أنا لكل قديم، لست دقة قديمة، بل تتهمنى زوجتى كثيرًا بأنى لا أعيش سنى والمفروض أن تكون تصرفاتى وأفعالى -من وجهة نظرها- أعقل مما عليه الآن!. على كل حال هذا ليس موضوعنا فى هذه اليوميات لكنها كانت مقدمة ضرورية لأشرح حبى وتعلقى بكل قديم، حتى وإن تفاعلت مع الجديد وتأقلمت معه وأحببته لدرجة تضعنى فى مرمى انتقادات زوجتى. أقول هذا الكلام وأنا أكتب لك عزيزى القارئ من مدينة فيلادلفيا الأمريكية، العاصمة القديمة للولايات المتحدة. تلك المدينة التى سحرتنى من أول نظرة. ربما يكون السبب الرئيسى أنها احتفظت بما يزيد على خمسين بالمائة من قديمها. زرت عواصم عالمية كثيرة من التى احتفظت ببعض مناطقها وشوارعها القديمة كما هي، لكن فيلادلفيا هى أول عاصمة قديمة تحتفظ بغالبية سحر القديم وجاذبيته، ففى الشوارع والبيوت تستطيع أن تشم بالفعل روائح الماضي. لم تكن فيلادلفيا مجرد محطة على خريطة الزيارة، بل كانت حُلما مؤجلًا. منذ سنوات وأنا أقرأ عن هذه المدينة التى وُلدت من رحم الثورة، والتى كتبت أول فصول الحرية الأمريكية بقلم من رصاص وورق من نار. وحين خطوتُ فيها لأول مرة، شعرت أننى لا أزور مدينة، بل أدخل فى قلب كتاب تاريخ مفتوح. (الشوارع التى تسكنى) الأحد: ربما يكون مولدى ونشأتى وسيرتى الأولى هى السبب فى ارتباطى بالعواصم القديمة. كيف لا وقد نشأت فى الأقصر، طيبة، أقدم عاصمة للتاريخ، السجل المفتوح للتاريخ، وعاصمة الخلود الأولى على وجه الأرض. طيبة الشامخة منذ آلاف السنين، عاصمة الدولة المصرية فى أوج مجدها خلال عصر الدولة الحديثة، ومسرح الحضارة الفرعونية حين بلغت ذروتها فى القوة والفن والروح. لا تفارقنى شوارع الأقصر إذا سافرت لأى مكان فى العالم، فهى ليست فقط أقدم عاصمة فى التاريخ، بل أيقونة الحضارة التى لا تزال تنبض بعظمة مصر، وتخبر كل من يزورها بأن هذه الأرض كانت يومًا قلب العالم القديم النابض بالحياة والدهشة. شوارع الأقصر، مع احترامى لكل شوارع العالم، ليست مجرد طرقات بل ممرات فرعونية تتنفس التاريخ، ويمتد عليها عبق آلاف السنين. ففى الأقصر تشعر أنك تمشى فوق صفحات من أوراق البردى العتيق، مسطور عليها أمجاد الملوك والكهنة والنحاتين. طيبة ليست حجارة، بل أثر حيّ يمشى فيه التاريخ بجوارك، وتسمع فى صمتها صوت الماضى العميق. (استقبال مغربى) الإثنين: استقبلنى فور وصولى فيلادلفيا الصديق المغربى ربيع السباعى الذى تعرفت عليه فى رحلة عمل لواشنطن دى سى منذ عشر سنوات تقريبا وهو فى الأصل محامٍ درس المحاماة فى المغرب وهاجر لأمريكا منذ أكثر من عشرين عاما. وبعد أن بدأ فى إجراءات معادلة شهادته المغربية بأخرى أمريكية اكتشف أن المسألة ليست بهذه السهولة، فاختصر الطريق الطويل الشاق وعمل بعيدا عن المحاماة فى عدة مهن ليس لها علاقة بالمحاماة وهو الآن يعمل كشيف فى الفنادق الكبرى وفى الوقت نفسه يدرس التمريض!! سألته عن العلاقة بين كل هذا وبين تخصصه الأصلى فقال إن الحياة لأى مهاجر فى بداية هجرته ليست بالرفاهية التى تسمح له بالتفرغ للدراسة إلا إذا كان من طبقة الأثرياء. وبالمناسبة يمكن لأى إنسان فى أى تخصص أن يغير من «الكارير» الذى يعمل به بمعنى لو أراد ميكانيكى مثلا أن يصبح طبيبا لأمكنه ذلك، بشرط الدراسة أولا ليحصل على الشهادة التى تمكنه من ممارسة الطب وهى طبعا مسألة تحتاج لإرادة حقيقية ودراسة فعلية وامتحانات كثيرة وصعبة، النجاح فيها يحتاج مذاكرة حقيقية واستيعابا وفهما وليست فهلوة. شجعنى ربيع على زيارة فيلادلفيا التى استقر فيها مؤخرًا. وطوال الطريق من المطار إلى فندق الإقامة تقمص ربيع شخصية المرشد السياحى وبدأ يعطينى بلهجته المغربية المحببة إلى قلبي، بعض المعلومات عن فيلادلفيا التى تقع فى ولاية بنسلفانيا شرق الولاياتالمتحدة، بين نيويورك وواشنطن العاصمة وتُعرف ب»مدينة الحب الأخوي»، وهو معنى اسمها بالإغريقية. وهى خامس أكبر مدينة أمريكية من حيث عدد السكان، بتعداد 2.5 مليون نسمة تقريبا بعد نيويورك (9 ملايين) ولوس أنجلوس (5 ملايين) وشيكاغو (4 ملايين) وهيوستن (3 ملايين). وقد شهدت مهد الثورة الأمريكية. ووقع فيها إعلان الاستقلال عام 1776. واستضافت المؤتمر الدستورى الأمريكى 1787. وكانت عاصمة مؤقتة للولايات المتحدة من 1790 إلى 1800. قاطعته مداعبا: من فضلك يا ربيع لا تكن مثل الخال جوجل الذى لا يبخل علينا بأية معلومات، أنا هنا لأشاهد بنفسى وعلى الطبيعة. فضحك ربيع وتوقف عن دور المرشد السياحى وسألنى السؤال الشهير الذى يسأله أى مغربى لأى مصرى إذا تقابلا فى أى مكان فى العالم: قولى يا «هيشام» هل قابلت الفنان عادل «إيمام» هكذا ينطق الأخوة المغاربة الأسماء بوضع كسرة تحت كل اسم! ولما سألته عن سر تعلق أبناء المغرب الشقيق بهذا الفنان الكبير بالذات قال لى من قال هذا يا «هيشام» نحن نحب كذلك الفنانة «فاتن حيمامة»، هل التقيتهما من قبل يا «هيشام»؟! آه لو يدرك فنانونا قيمتهم فى العالم وبالذات فى الدول العربية لما بدرت منهم تلك التصرفات التى جعلت علاقة الأشقاء العرب بالفن المصرى تتركز عند النجمين عادل إمام وفاتن حمامة وغيرهما من الكبار الذين حتى لو اختلفت حول بعض أعمالهم إلا أنهم حافظوا على سمعتهم كسفراء لبلادهم وكانت حياتهم الخاصة مستقرة مثل غالبية الناس ولم تدفعهم الشهرة والأضواء والبحث عن الترند للانحراف والدخول فى علاقات غير طبيعية والتضحية باستقرار أسرهم وأطفالهم والدفاع عن سلوكيات لا تتناسب أبدا مع الشرائع السماوية. فظلوا فى قلوب الناس وسيظلون كذلك. يتذكرون أعمالهم على مر الزمان ولا يعرفون ولا حتى اسم ممثلة أو ممثل من هؤلاء الذين تقرأ عن فضائحهم أكثر مما تقرأ عن أخبارهم وأعمالهم الفنية. ظلت سيرة فاتن حمامة وعادل إمام وغيرهما من عظماء الفن وستظل لأنهم حافظوا على أنفسهم وسمعتهم وحياتهم الخاصة بعيدا عن السلوكيات التى تجعل سيرة أصحابها على كل لسان. لعل فنانينا يفهمون ويتقون الله فى بلدهم. (حى الزومبى) الثلاثاء: اصطحبنى ربيع فجلسنا على مقهى صغير من الطوب الأحمر، شعرت أن الجدران حولى تتنفس. المبانى القديمة، الشوارع المرصوفة بالحجارة، النوافذ الخشبية التى تطل على الشارع وكأنها تتفرج عليك كما تتفرج عليها.. كل شيء يهمس: «لقد مرّ من هنا الكثيرون، وتغيّر كل شيء، إلا نحن». ولشغفى الكبير بالآباء المؤسسين للولايات المتحدة زرت قاعة الاستقلال، حيث كُتب الدستور الأمريكي، وحيث اجتمع رجال ربما لا تُذكر أسماؤهم كثيرًا، لكنهم غيّروا وجه التاريخ. كنت أتأمل الجدران، السقف الخشبي، والمقاعد المصقولة التى جلس عليها المؤسسون. هنا لم تكن الديمقراطية فكرة، بل مخاطرة، والمخاطرة لم تكن مجرد حبر على ورق، بل مخاطرة حقيقية محفوفة بالمشانق البريطانية. وأمام جرس الحرية، وقفت فى صمت. ليس لأنه قطعة معدنية مشقوقة، بل لأنه رمز لكل من حلم يومًا بالحرية حتى لو لم يلمسها. وفى صوته صدى لا يزال يتردد. ضبطنى ربيع وأنا أدندن ليالى الأنس فى فيلادلفيا. فضحك وقال لا تتعجل حتى ترى الجانب المظلم من المدينة التى وقعت فى هواها، حيث هناك حى بالكامل فى شمال فيلادلفيا أو فيلى كما يسميها الأمريكيون، يطلقون عليه اسم العراق الشقيق، مع الأسف الشديد، لكثرة حوادث ضرب النار فيه، كما توجد منطقة ملقبة بحى الزومبى حيث كثير من مدمنى المخدرات يهيمون فى الشوارع مثل كائنات الزومبى بسبب ما تفعله بهم المخدرات. وبعد مرور أسبوع على وجودى فى فيلادلفيا وفى طريقى لمطار العودة سلمت ربيع قائمة جديدة بالأماكن التى أرغب فى زيارتها لو كان لى نصيب وعدت لزيارة فيلادلفيا، فطواها وهو يضحك قائلا: هذا يتطلب أن تكون زيارتك القادمة لنا على الأقل شهرًا كاملًا، ثم ودعنى قائلا بنفس العبارة المغربية الشهيرة: لا تنسى يا «هيشام» تسلملى على الفنان عادل «إيمام»! آخر الرحلة لديّ حلمٌ بأن تنهض الأمة الأمريكية يومًا ما وتُجسّد المعنى الحقيقى لعقيدتها. نؤمن بالحقيقة البديهية، وهى أن جميع البشر خُلقوا متساوين. (مارتن لوثر كينج )