لم تعد الكلمة حكرًا على كاتب أو مفكر أو متخصص، ولم يعد السلاح رصاصات تطلق بل أصبحت كلمة على السوشيال ميديا تلك الوسيلة المجانية المتاحة للجميع طوال الوقت وهنا تكمن الخطورة. الكلمة في الماضي كانت تحمل من القوة والتأثير ما يجعل أجهزة مخابراتية عالمية تتابع وتفحص وتحلل مقالات الأستاذ محمد حسنين هيكل حرفًا حرفًا، لتستشف منها سياسات واتجاهات. كانت المقالة تُكتب بوعي، وتُقرأ بعناية، وتُحلَّل بخبرة، فالكلمة آنذاك كانت فعلًا مسؤولًا، والكاتب كان جنديًا في معركة الوعي. أما ما نراه اليوم ومع هذا المد التكنولوجي فالكلمة تُنشر دون تفكير، والبوست يُشارك دون تحقق، والصورة تُعاد تدويرها دون مصدر، وكأننا نعيش في سوق مضطرب، كلمة واحدة قد تُحدث بلبلة، ومنشور عشوائي قد يُشعل فتنة، أو يروّج لمعلومة مغلوطة تُسيء للدولة أو تشوه الحقيقة، دون أن يدري كاتبها أنه أداة – ولو بغير قصد – في حرب الوعي الحديثة. تبدأ القصة دائمًا من "بوست مجهول"، أو "تغريدة غامضة"، أو "صورة قديمة تُقدَّم على أنها جديدة"، لتنتشر كالنار في الهشيم عبر المنصات الإلكترونية، فيستولي الخوف على العقول، ويضعف الإيمان بالحقائق، ويُفتح الباب أمام التشكيك في كل شيء. لقد أدركت بعض الجهات المعادية أن أخطر طريق لإضعاف دولة قوية ك مصر ليس بمواجهة جيوشها، بل بإرباك وعي شعبها. ومن هنا جاءت الحروب الإلكترونية التي تعتمد على السيطرة على المنصات، وشراء الصفحات والحسابات المموَّلة، ونشر محتوى موجَّه يخلق بلبلة ويُثير الشك، حتى تُصبح الحقيقة غائبة، والضلال متاحًا بضغطة زر. الاستحواذات الإلكترونية هي خطة مدروسة لاختراق الوعي الجمعي، وإغراق المواطن بسيلٍ من المعلومات المضللة حتى يفقد القدرة على التمييز بين الصواب والزيف. فمنصات التواصل لم تعد فقط وسيلة للتسلية أو التواصل، بل تحولت إلى ميدان حرب مفتوح، تُدار فيه معارك خفية من وراء الشاشات، بين من يريد بناء الوعي ومن يسعى لتفكيكه. الوعي.. خط الدفاع الأول لقد أدركت الدولة المصرية هذه الحرب مبكرًا، وبدأت عبر مؤسساتها المختلفة في تحليل المنشورات والاتجاهات الرقمية، ورصد أنماط الشائعات ومصادرها، لتعرف ما يُدار في الخفاء ضد وعي المواطن المصري. وفي المقابل، أطلقت حملات للتوعية الرقمية، ودعت الإعلام الوطني لأن يكون الدرع الواقي أمام سيل الأكاذيب الذي لا يهدأ. لأن الخطر الحقيقي ليس في منشور كاذب، بل في العقول التي تُعيد نشره دون تفكير، لتصبح أداة غير واعية في يد عدوٍ لا يُرى. فالحل لا يكون في المنع أو القمع، بل في بناء وعي رقمي مستنير يقوم على المعرفة، والتحقق، والمسؤولية. يجب أن يبدأ هذا الوعي من المدرسة والجامعة، حيث تُدرَّس مادة "التربية الإعلامية" لتُعلِّم الأجيال الجديدة كيف تميّز الخبر الصحيح من المفبرك، وكيف يستخدم المواطن التكنولوجيا في خدمة وطنه لا في هدمه. كما يجب على الإعلام الوطني أن يستعيد مكانته، لا بالتلقين، بل بالتنوير والإقناع، فيقدّم المعلومة الدقيقة قبل أن تُشوَّه، والحقيقة قبل أن تُخطف. فالكلمة في عصرنا لم تعد مجرد رأي، بل سلاح يبني أو يهدم، والبوست الواحد قد يكون شرارة تُشعل فتنة، أو شعاعًا يُنير وعي أمة. احذروا سلاح الشائعة، فهو أخطر من القنبلة، لأنه لا يقتل الأجساد بل العقول. واذكروا دومًا أن مصر التي واجهت الحروب بالسلاح، قادرة أن تواجه حروب الوعي بالعلم والفهم والإدراك. فلتكن الكلمة سلاحًا للبناء، لا أداة للهدم، ولنتذكر دائمًا أن الوعي هو جيش لا يُقهر، إذا اصطفّت خلفه العقول الناضجة.