أيتها النفس التى يغلب شرها خيرها، فكرى مليًا واستجيبى فورًا لدعوة إشارة المرور التى تناشدك قائلة: ستوب!!. لن أمّل من الكتابة عن صبر الإنسان على الإنسان فى هذه البلاد، رغم عجلة الرأسمالية الطاحنة التى لا تعترف بكسل أو تهاون إلا أن الناس لديها صبر عجيب على بعضها البعض، ولا يحاول أحد حتى لو كان فى عجلة من أمره أن يتخطى من سبقه فى أى طابور مثلًا، ولا تسمع ولو حتى همسًا أى احتجاج لو طال انتظارك لأن الزبون الذى أمامك أخذ وقتًا طويلًا أمام الكاشير، بل الجميع يقف فى صبر واحترام دون تململ.. ناهيك عن الصبر فى المرور. فعلى الرغم أنى تناولت تلك القضية مرات عديدة، إلا أننى فى كل مرة أزور فيها أمريكا أجد نفسى على نفس درجة انبهار القروى الساذج الذى بهرته أضواء المدينة. مع احترامى لكل القرويين الذين ظلمهم هذا المثل الشعبى فهم ليسوا بسذج بل على درجة كبيرة من الطيبة التى لا تتعارض مع الذكاء الفطرى الحاد الذى يتمتعون به. وربما من يستحق الرثاء هو حال كثير ممن يندرجون من أصول ريفية وولدوا فى القرى من أمثالى، لكنهم مع الأسف تربوا فى المدن ففقدوا كثيرًا من براءتهم وسذاجتهم الحميدة، واكتسبوا كثيرًا من أخلاقيات الزحام فى المدن التى عاشوا فيها غالبية أوقات حياتهم. المهم أنى خلال زيارتى هذه لأمريكا وجدت نفسى أتأمل تلك الفكرة التى يطبقونها فى غالبية الشوارع والتقاطعات. فهم لم يلغوا التقاطعات تمامًا لتضطر للسير مسافة طويلة حتى تجد ال «يوتيرن» أو الملف، بل طبقوا فكرة بسيطة جدًا لكنها عبقرية من وجهة نظرى، حيث وضعوا أمام كل قادم من اتجاهات التقاطع الأربعة لافتة «ستوب» أى قف، وقف هنا ليست معناها فقط أن تهدئ من سرعتك بل معناها أن تقف بسيارتك تمامًا، ولأهمية هذه النقطة فهى تؤخذ فى الاعتبار أثناء امتحانات منح رخص قيادة السيارات وكثير من الأصدقاء المصريين والعرب عمومًا رسبوا فيها حيث كانوا كما نفعل فى بلادنا يهدئون السرعة فقط. تخيلوا حضراتكم معى هذا المشهد، سيارات أربع تقف فى الأربعة اتجاهات. هكذا يقول القانون الصارم الذى تطبقه حكومة كل ولاية. وبعد أن يتوقف الجميع هنا يأتى دور قانون آخر لا تحكمه كاميرات المراقبة، بل هو القانون الإنسانى الذى يحكم وينظم عملية استئناف سير السيارات الأربع المتوقفة فهو ينص على أن من جاء أولًا فهو يتحرك أولًا، وكل واحد من الأربع يدرك دوره فى التحرك جيدًا، فمن جاء أولًا يتحرك أولًا وفلوستوب. وهكذا وفى ثوانٍ معدودة يكون الجميع قد ذهب إلى حال سبيله. طبعًا السؤال المنطقى وماذا لو جاء اثنان مثلًا فى وقت واحد؟! هنا أيضًا يبرز دور للقانون الإنسانى، وليس من العجيب أن تجد الاثنين، كل منهما يعزم على الآخر ليتحرك أولًا، ستسألنى سؤالًا آخر وهذا حقك: وماذا لو قبل كل منهما عزومة الآخر وتحرك الاثنان فى وقت واحد؟، أجيبك قائلًا: نعم حدثت كثيرًا فيما مضى وتسببت فى احتكاك السيارات ببعضها وحدثت خسائر طبعًا فى السيارات لا تصل لدرجة الحوادث الشنيعة، لذا قرر الجميع دون اتفاق مكتوب ألا يطيل كل طرف فى عزومة الآخر فى أن يتفضل، فمن أشار للآخر أولًا مشكور على مبادرته بالعزومة، وعلى الآخر أن يقبل العزومة ويتفضل بالتحرك مع إيماءة شكر وامتنان للطرف الأول. تشعر أن كلمة ستوب فى إشارات المرور بالولايات المتحدة ليست فقط وسيلة لتنظيم المرور وتفادى الحوادث قدر الإمكان، حيث إن تلافيها نهائيًا من رابع المستحيلات، ولكنها دعوة إنسانية قبل أن تكون دعوة تنظيمية. ستوب أى إهدأ قليلًا والتقط أنفساك عزيزى الإنسان، فمن سبقوك فى هذا الموضع سيقفون حتمًا فى موضع مقبل، إهدأ ولا داعى للعجلة أيها الإنسان. توقف وفكر فيما كنت فيه وفيما أنت مقبل عليه. قف هذه اللحظات وتأمل حالك. أتخيل تلك العلامة تعنينى أنا بالتحديد. ولعلها جاءت كدعوة للتوقف مع النفس فى بداية عام جديد. فمن المؤكد أننى عن نفسى لو استعرضت سلوكياتى فى العام المنتهى فسأجد الكثير جدًا من السلبيات وربما القليل جدًا من الإيجابيات إن وُجد، لذا أعتبر هذه اللافتة دعوة صريحة للتوقف مع النفس، فيا أيتها النفس التى يغلب شرها خيرها، فكرى مليًا واستجيبى فورًا لدعوة إشارة المرور التى تناشدك قائلة: ستوب!!.