عادل ضرغام رأيت أثرا من آثارنا القديمة أشعر بالغبطة وبالشموخ، وأشعر بالاختلاف والمغايرة والتيه على كل الأعراق الأخرى . من الظواهر اللافتة التى صاحبت الحدث العالمى فى افتتاح المتحف الكبير، استعادة المصريين للجزء الثابت والصلب من هويتهم، وذلك بالعودة إلى تراثهم القديم المرتبط بالزى الفرعونى الذى يكشف ، بكل تجلياته وأشكاله- عن معتقدات قديمة تنسرب داخلنا دون أن نشعر، وعن انتماء يشكل الوجود الحيوى فى الخلفية الثقافية لهذه الشخصية المصرية. فقد شكّلت هذه الظاهرة وجودا لافتا جعل الكثيرين ينتبهون إليها، وإلى حضورها، بشكل حرّك وحرّر الآخرين أصحاب الانتماءات الأخرى من انحيازاتهم لأعراقهم وأصولهم، فرأيناهم كيف يشايعون المصريين محبة أو شغفا بالوجود والنسق الفرعونى الموغل فى القدم والكاشف عن الأصالة، بل رأينا أناسا لهم وجودهم الثقافى والفكري، يقومون بهذا الطقس الكرنفالى بنشر صورهم وهم يرتدون ذلك الزى بفخر. إن ما يستدعى الانتباه فى معاينة هذه الظاهرة يتمثل فى طبيعة ميلادها، فقد جاء هذا الميلاد طبيعيا دون توجيه من أحد، وأعتقد أن أية مقاربة جادة، سوف تكشف عن صواب ومشروعية هذا التصور، وعن التشكّل التلقائى الذى بدأ فرديا، ليصبح جمعيا فى النهاية، يحتوى ويضمّ المثقفين والكتّاب وأساتذة الجامعات والشخصيات العامة، وكل الفئات الأخرى. وهذا التنوّع يشير إلى كرنفال حقيقى لكل المصريين، كرنفال يذيب الفوارق والحدود بين الطبقات الاجتماعية المكوّنة لهذا الشعب، يستوى فيه الغنى والفقير والمثقف وغير المثقف، وكأن فى هذا الكرنفال الاحتفالى دلالة على الاحتفاء بنسق أو سياق يجمع ويوّحد بينهم، ويهشم- ولو جزئيا فى لحظة مارقة من الزمن- الحدود المصنوعة التى قد تؤسس لها الثقافة، أو يؤسس لها رأس المال، أو يؤسس لها التراتب الطبقي. يبدو لمتأمل هذه الظاهرة أن الانشداد إليها يشكّل حالة تستدعى الدرس والمساءلة، وتستدعى الكثير من التفكير، لتبرير هذا الشيوع والانتشار على منصات التواصل الاجتماعي. فهل يحتمى المصريون بتاريخهم الموغل فى القدم؟ أم أن الأمر يمثل وسيلة اتصال واستعادة، للوصول إلى نصاعة الجذور، وتثبيت هذه النصاعة فى اللحظات المفصلية ولحظات الانتصار أو الإنجاز؟ أعتقد أن الأمر يحمل نوعا من الاستقواء بهذا التاريخ وتلك الحضارة، وكأن فيه وسيلة من وسائل الترهيب للآخر المراقب على الجانب الآخر، وكأن فيه- أيضا- شعورا بالوحدة التى تطغى وتكيّف هذا التعدد، وتحيله إلى إطار من إطارات القوة، وإلى حالة من حالات الانسجام الذى قد يتوارى فى لحظات زمنية، لكنه يعود بشكل أكثر قوة، كاشفا عن وحدة فى الشكل، ووحدة فى الحركة والتوجّه، فالتشابه علامة أو أيقونة دالة على النصاعة المتوارية والأساس الصلب الذى قد تغطيه الأتربة الناعمة، وتفقده شيئا من ملمسه اللامع. المصريون والكرنفال الفرعونى بهذه العودة التى رأينا صداها واضحا إلى الزى المصرى القديم، وإلى الثقافة المصرية القديمة على منصّات التواصل الاجتماعى التى شكلّت الكرنفال الخاص الكاشف عن التعدد داخل الوحدة، يعلن المصريون الانتماء إلى تاريخهم وأصلهم الفرعونى الذى يمثّل المكوّن الصلب والأساس والفاعل فى تشكيل هويتهم الذى يستدعونه فى لحظات الفرح، ويستقوون ويتدثرون به فى لحظة انهزامهم، ويبنون من خلاله الذات مرة أخرى للعودة إلى طريق النصر. وسيادة هذا المكوّن الصلب لا تمنع أن يكون هناك مكونات وأمشاج من ثقافات أخرى، تشكّلت بمرور العصور والأزمنة من اختلاط المصريين بأعراق عديدة. إن قوّة المكوّن الأساسى تتيح له القدرة على الاستيعاب، حين يتعلّق الأمر بجزئيات أو أمشاج مجلوبة من ثقافات عديدة طارئة، وتتيح له- أيضا- القدرة على التعديل والتوجيه، بحيث تأخذ هذه العناصر المجلوبة الطارئة من ثقافات أخرى أشكالا وأنماطا جديدة، فتتحرّر هذه العناصر من صلابتها ووحشيتها، وتستجيب للثقافة المصرية القديمة، مما يكشف عن قيمة هذا المكوّن، خاصة حين يتعلق الأمر باستفحال هذا العنصر المجلوب، حتى يخيّل للبعض أن هذا العنصر المجلوب بات يشكل ملمحا من ملامح الهوية المصرية، لأن أصحاب هذا العنصر والمقتنعين بقيمة وجوده لا يملّون من التكرار، ولا ينفضون أيديهم منه بالوسائل العادية المعهودة المرتبطة بالإقناع أو حجاج الأفكار. يمثل الكرنفال الذى رأينا صورته وهالاته الجميلة على منصات التواصل الاجتماعي، تعرية للزائد الهش من عناصر الهوية المضافة إلى العنصر الأساسي، فقد وجدنا أنفسنا فى لحظة منفلتة من الزمن متوحدين مع العصب العارى لهويتنا، ووجدنا أنفسنا متصالحين فى لحظات محددة مع ذواتنا، ومع تاريخنا القديم الذى يجب أن يكون فى ظلّ ما حدث جزءا أساسيا ممتدّا من متطلبات التعليم فى المراحل الدراسية المختلفة، فلم يعد من المنطقي- أو المقبول- أن تكون معرفة السائح الأجنبى أو الزائر عن هذه الآثار أقوى وأكثر من معرفة أبناء البلدة التى أنتجت هذه الحضارة. فهذه المعرفة التى يجب أن نؤسس لوجودها- إذا تمت- سيكون لها أثر كبير فى إزالة الغربة والانقطاع، وتحقيق نوع من التواصل بين الماضى والآني، وتسدل مساحة من المشروعية على استنبات قدرات خاصة للمصريين فى اللحظة الآنية. المصرى القديم والآنى كلما رأيت أثرا من آثارنا القديمة أشعر بالغبطة وبالشموخ، وأشعر بالاختلاف والمغايرة والتيه على كل الأعراق الأخرى، لأننى أنتمى إلى هؤلاء الأجداد العظماء الذين قاموا ببناء هذه الحضارة، ووصلوا إلى مدى علمي، لا يزال يحيّر العلماء فى تخصصات علمية عديدة، مما يشير إلى حقيقة لا جدال فيها، تتمثل فى كون المعروف أو ما أُميط عنه اللثام من هذه الحضارة المصرية القديمة، لا يمثل إلا جزءا يسيرا، وأن هناك أسرارا لم تكتشف بعد، وأن الاقتراب منها والوصول إليها قد يستغرق أعواما وعقودا وقرونا، بالرغم من أن علم المصريات والحضارة المصرية القديمة أصبح تخصصا لافتا فى معظم الجامعات الأجنبية، ويشكل عامل جذب لكثيرين، تشدهم إلى ذلك الرغبة فى المعرفة والطموح إلى الاكتشاف. ولكن هذه الغبطة وذلك الفخر بالانتماء إلى هؤلاء الأجداد، خاصة حين يداخلك شعور قوى بالقداسة وأنت تخطو فى ساحات معابدهم ورؤية تماثيلهم، تلك القداسة التى تجعلك تنتبه لموضع خطواتك، وتتأمل تتابعها بهدوء، يتولّد بجوارهما نوع من الأسى المرير، حين يفكّر الإنسان فى المغايرة الكاشفة عن مساحة من الانقطاع، ويقارن بين المصرى القديم ومنجزه، والمصرى الآنى ومنجزه. صحيح أن لكل عصر حضارته ومنجزه العلمى والعمرانى والفني، لكن دائما ما ينتابنا شعور بأن قامتنا قصيرة أمام قامتهم العملاقة، وأن منجزنا فى أشكاله المختلفة على تنوّعه، لا يقترب من منجزهم وأسرارهم التى يقف العلم أمام الكثير منها عاجزا، لا يستطيع أن يقدم إجابة شافية. لا أقدم تلك المقارنة بين المصرى القديم والمصرى الآنى المعاصر، من باب اللوم أو التقريع، خاصة أن لديّ يقينا بقدرة المصرى على تخطّى الصعاب، وقدرته على الوصول إلى منجز رفيع لافت فى أى سياق يعيش فى إطاره، ولديّ- أيضا- يقين بوجود جينات الاستعلاء والتفوّق مختزنة داخل كل مصرى حين يقارن بجميع الأعراق. ولكنى أقدمها الآن- أى تلك المقارنة- لكى نكون أكثر اهتماما باستحضار وتجلية هويتنا الصلبة القديمة التى يجب أن تكون كنفا أو مظلّة أساسية نتحرّك فى إطارها. فهذا النور الساطع الذى أضاء بفضل افتتاح المتحف المصري، أعاد الجميع إلى ماضينا إلى كينونة وجودنا وهويتنا، وكشف لنا حقيقة ارتباطنا بهذه الهوية الصلبة. ما نحتاج إليه فعلا أن نعمل على تغذية هذا الارتباط بكل ما هو مصري، وأن نزيل ما تراكم من أمشاج ثقافية أخرى، توهمنا بالفاعلية والوجود، ولكن حدثا واحدا يهشّم وجودها واشتغالها الطويل. علينا أن نعمل على إعادة الاتصال الدائم بتاريخنا المصري، حتى لا نخسر لقاءنا بهذا التاريخ، وتعود فى الوقت ذاته لهويتنا نصاعتها المتوارية تحت تأثير أردية وأشكال تتحرّك بهدوء، لا تمثل وجودنا، لكنها تنمو متسلحة بالتراكم والتكرار .