د.عادل ضرغام ففى هذه الفترة تكوّنت نماذجنا الفاعلة والمؤثرة حتى هذه اللحظة، مثل طه حسين، والعقاد، وعبدالوهاب، وأم كلثوم، ويوجد بالضرورة نماذج أخرى لها دورها فى المجالات الأخرى . انتهت منذ أيام قليلة الدورة السادسة والخمسون لمعرض القاهرة الدولى للكتاب الذى يمثل الحدث الثقافى الأهم فى السياق العربى على تنوّع وتعدد بلدانه وأقطاره. وبالرغم من وجود مناوشة من معارض أخرى فى طور النشأة والتكوين، يظل خارج المنافسة باحتلاله المكانة العالية التى يستحقها. ولم يصل معرض القاهرة الدولى للكتاب إلى تلك المكانة -وإن كان ذلك جزءا أساسيا- بسبب قدمه وكونه أول المعارض بالمنطقة، ولكن فى اعتماده -بالإضافة إلى ما سبق- على تراث ثقافي، ومثقفين ومبدعين لهم أثرهم المستمر، فى خلق حالة تحديث داخل مصر وخارجها. إن أى عمل ثقافى مثل معرض الكتاب، أو أية تظاهرة ثقافية، بحاجة ضرورية إلى ميراث حضاري، نستطيع أن نشمّ فيه أنفاس وحضور النماذج العليا لهذه الثقافة، وأنفاس صنّاع تاريخه، حتى لو غيّبهم الموت، أو تغيرت الوجوه والأشكال القائمة عليه، لأن هذا الميراث الحضارى له قدرة على الحركة والتأثير، وعلى الحفاظ على القيمة المؤسسة نظرا لعمق الامتداد والتوالد التدريجى اللذين لا يطمسان أسسا ثابتة، أو قيما صلبة متماسكة. معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته السادسة والخمسين -وكل من شارك فيه يستحق الشكر والتقدير، بداية من رئيس الهيئة د. أحمد بهى الدين، ومرورا باللجنة العليا للمعرض، وانتهاء بأصغر عامل- حلقة من حلقات سابقة ممتدة، وهذه الحلقات تحافظ على بهائها استنادا إلى ميراث ضخم، قد تتأثر بعض هذه الحلقات فى جانب من الجوانب، لكنها لا تفقد أبدا هويتها، وتكوينها الصلب، لأن التمدد التدريجى للأمام، والنظر إلى الحلقات الماضية بمنطلقاتها الخاصة، يحفظان له نوعا من التماسك والاستمرار، حتى فى ظلّ وجود منافسات أخرى، من مراكز ثقافية وليدة، تتعجّل المنافسة، لكن هذه المعارض -أو التظاهرات- فى الثقافية فى البلدان الأخرى، تظلّ لامعة برّاقة، دون عبق تراثى ممتد عبر التاريخ. أفق الحداثة الممتد لا نستطيع أن نفصل هذا التراكم الثقافى، والوجود المعرفى الخاص لمعرض القاهرة الدولى للكتاب فى الندوات أو الحوارات الفكرية، عن حالة التحديث الأولى فى نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين، وعن السبق المؤسس لمصر فى الاتصال بالآخر، وتأسيس مفاهيم لافتة، ظل لها دوران مؤثر فى حياتنا السياسية والثقافية، مثل (المواطنة) و(الليبرالية)، وبداية الشعور بوجود هوية حديثة للمصريين مرتبطة بثورة 1919، ومنطلقاتها الأساسية فى بحثها عن حرية الفرد والدولة، وسبلها فى تحقيق العدالة. وكل ذلك كان له تأثير مهم فى عملية التحديث، وسنّ القوانين المنظمة لحياة المصريين وفق هذه الأسس. وقد كان لهذا السياق التحديثى السياسى الذى لا يخلو من إسهام ثقافى واجتماعي، أثر فى ميلاد النماذج المصرية فى كثير من المجالات، بل يمكن القول -بشكل قد يكون أكثر دقة- إن هذا السياق ولد، وأصبح له وجود ملموس بفضل وجود هذه النماذج بشكل متواز معه. ففى هذه الفترة تكوّنت نماذجنا الفاعلة والمؤثرة حتى هذه اللحظة، مثل طه حسين، والعقاد، وعبدالوهاب، وأم كلثوم، ويوجد بالضرورة نماذج أخرى لها دورها فى المجالات الأخرى، مثل الطب والهندسة والعلوم. التراكم وعدم الانقطاع إن ما يميّز الحالة الثقافية المصرية يتمثل فى حالة التوالد المستمر والاتصال دون انقطاع بين نماذجها وأشكال تجليها، فمنذ بداية التحديث، ووجود هوية صلبة، سواء فى السياسة أو فى الثقافة، لم يحدث انقطاع لتجلى هذا الإرث الثقافي، بالرغم من التشكلات والتغييرات التى تطال التجليات الأولى لعملية التحديث. فوجود شوقى وحافظ بوصفهما شاعرين يشكلان نوعا من اليقظة التى تشكل الأرضية الأولى لعملية التحديث الإبداعي، ومن قبلهما البارودي، من خلال التوجه نحو التراث البعيد، لم يؤد إلى غلق منافذ الثورة والخروج على هذا النموذج، فهناك (الديوان) و(أبوللو)، وقد كوّن كل اتجاه منهما أسسا تحتفى بالنظرية الرومانسية. وقد ظلّ هذا التواصل بين السابق واللاحق -سواء أكان قائما على التنافر أو التجاوب- علامة فارقة فى الثقافة المصرية، فليس هناك إحساس بالانقطاع أو الغياب، فمع كل اتجاه إبداعى هناك نماذج مصرية سامقة، مثل (عبدالصبور) و(حجازي) ممثلين للجيل الأول، وهناك نماذج أخرى فى أجيال تالية، بعد تحلل فكرة الاتجاه الإبداعي، وإحلال فكرة الجيل أو الموجة الشعرية، ارتباطا بإقامة وتكوين سمات دالة بين كل جيل وآخر داخل شعر التفعيلة، أو داخل سياق قصيدة النثر. ويمكن تطبيق هذا النمط الاتصالى غير المنقطع فى سياق فنون أخرى مثل الرواية أو القصة القصيرة، وفى سياق تجليات فكرية كاشفة عن التمدد والوجود حتى فى ظل وجود الاختلافات والنمو المنطقى المغاير داخل كل إطار. النماذج المؤثرة وفى ظلّ هذا التراكم المستمرّ للثقافة المصرية، فى أشكاله المتناسلة عبر الزمن من المفكرين أو المبدعين شعراء أو كتّاب رواية أو مسرح أو قصص قصيرة، تتشكّل نماذج فارقة، حيث تصبح مرتكزات لافتة فى مجالها، وتكتسب وجودا دافقا خارج حدود زمنها، فأفكارها ومنجزها يتعاظمان على محدوديته، لأنها حين شكّلت وأسست مشروعها جعلته غير مرتبط بزمن، بل جعلته مرتبطا بأفكار تجريدية، وبذلك حررته من التعالق السطحى بالسياق التاريخى فى تجلياته المختلفة، خاصة إذا كانت هذه الأفكار مشدودة للوجود الإنساني، وإشكالياته العديدة فى مقاربة الحياة والوعى بالوجود بوصفه يشكل سؤالا ملحّا ومطروحا، تتعدد طرق الإجابة عنه. من هذه النماذج -وهو اختيار ذاتي، لا يمنع من وجود نماذج أو قمم كبيرة أخرى بجوارها- طه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وصلاح عبدالصبور. فهذه النماذج فى مشروعها مهمومة بالأسئلة الوجودية القلقة التى تناوش الإنسان دائما، وفى إجابتها عن هذه الأسئلة من خلال مشروعها، تجترح طرقا وأساليب مختلفة. وهذه النماذج -نظرا لقيمتها وقيمة مشروعها ومنجزها- أتمنى أن تظلّ حاضرة دائما فى ذاكرة معرض القاهرة الدولى للكتاب فى كل دورة، حتى لو كان الأمر مرتبطا بفاعلية واحدة، تكشف عمق التمدد والانحسار لقيم وأفكار ومنجز كل واحد منهم. الحالة المصرية ونموذج دال أتيح لى قبل أسابيع مضت أن أزور محافظة الوادى الجديد التى تغيّر شكلها تماما فى السنوات القليلة الماضية، بدعوة من الصديق د. أحمد الصغير لمناقشة رسالة علمية بكلية الآداب. وبعد المناقشة عرض على الصديق العزيز زيارة معبد (هيبس)، ورافقنا أثناء الزيارة أحد الموجودين فى المعبد بتحليله وشرحه المستفيض، وجال بخاطرى أن هذا المعبد كاشف عن حال الثقافة المصرية التى تستوعب ولا تذوب فى الآخر، وتعدّل وتحوّر حتى يستجيب هذا الآخر لأسسها الممتدة عبر التاريخ، حتى لو كان الآخر حاكما. فمعبد هيبس- وهو الاسم القديم لمدينة الخارجة، وتعنى فى اللغة القديمة المحراث- يقع فى مدينة هيبس القديمة، وقريب من جبل الطير، ويكشف من خلال أجزائه الثلاثة عن طبيعة الثقافة المصرية فى وجودها المتعالي، وقدرتها على أن تحيل منجز الآخر إلى شيء وثيق الصلة بها، ومنتم إلى عقائدها. يكشف المعبد -بالرغم من وحدة التصميم والبناء- على عصور متتالية متتابعة، يحمل كل عصر وجودا مختلفا، فهناك الجزء الرومانى الذى يبدأ بالبوابة الرومانية، يتلوها طريق الكباش الذى يحتوى على صفين من التماثيل بجسم أسد ورأس كبش، ثم البوابة البطلمية التى تعود إلى عصر بطليموس الثاني، وفى أعلى الواجهة صورة له، وهو يقدم القرابين لآمون. وتأتى بعد ذلك البوابة الفارسية التى تعود إلى الملك الفارسى (داريوس الأول)، وتعلو البوابة صورة الملك الفارسي، وهو يقدم القرابين (الخس) إلى آمون. التعدد بين الوجود الثلاثى (الروماني- والبطلمي- والفارسي) وثبات الحركة والوجه نحو الآلهة المصرية، يكشفان عن طبيعة هذه الثقافة الفاعلة غير المنفعلة بالذوبان، وعن قدرتها على الاستمرار، وفق هوية بها الكثير من الصلابة والتماسك .