د. عادل ضرغام مع مصر أنت أمام دولة يبدأ منها التاريخ، وتبدأ منها الأديان، وتبدأ المُثل والآداب والأخلاق التى جسدتها الكتابات القديمة والبرديات والنقوش . لست سياسيا، ولا أفهم فى السياسة بقدر فهم أصحابها والمهتمين بها، ولكنى متابع جيد من خارج الإطار، أتابع الحدث والأصداء الجانبية من خلال المناقشات المتداولة بين الأفراد العاديين والمتعلمين والمثقفين، وهى وإن كانت تصدر عن شخصيات غير ملمة بالسياسة بشكل كامل، إلا أنها فى الغالب لا تخلو من صواب وصحة ومشروعية. والحدث المهم فى الأيام السابقة يرتبط بدور مصر وقدرتها على وقف الحرب غير الأخلاقية بين إسرائيل والفلسطينيين، وهى الحرب التى استباحت فيها إسرائيل قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وهدم المنازل والمستشفيات والمؤسسات، واستخدمت فى ذلك كل أنواع الأسلحة، ومن ثم فإن وصف هذه الحرب بكونها غير أخلاقية وصف مبرّر. يتداول المتابعون حديثا عن القيمة التاريخية لمصر، ومواقفها المؤسسة عبر الأزمنة المشدودة إلى قناعات راسخة، تتمثل فى مساندة القضية الفلسطينية، والوقوف بجانب الشعب الفلسطينى على اختلاف وتنوّع طوائفه، والاشتغال بدأب على الوصول إلى هدفهم فى إقامة دولتهم الفلسطينية. وهذا الموقف من مصر موقف تليد ممتد، تتغيّر السياسات، وتتعارض المصالح، وتتورّط بعض الدول الصغيرة انتهازا أو مزايدة للوصول إلى دور غير موجود، أو للبحث عنه، وتتورّط بعض الدول الكبرى فى استمرار انحيازها المطلق والكامل لإسرائيل، ويظلّ موقف مصر خالدا وتاريخيا، لا يتأثر بالعوز، ولا يسعى لشهوة الظهور، ولا يغيب بنمو النزعة البراجماتية بوصفها المحرّك أو الموجّه الأساسى لدول العالم فى عصرنا الراهن. فموقف مصر ظلّ حتى فى وجود حالات التعب والإرهاق التى مرّت بها، موقفا تاريخيا محافظا على نصاعته، ولا يحيد عن أسسه وجذوره التاريخية المعروفة للجميع. مصر الموقف والتاريخ القيمة بالنسبة للدول- وخاصة القيمة التاريخية الموغلة فى القدم- قدر يتأسس على ماض تليد، صحيح أن هناك بعض الدول يمكن أن تلفت النظر والاهتمام بالإنفاق والبذخ غير المحسوب، أو بافتعال المواقف الجنونية غير المنطقية وغير المعقولة، ولكن كلّ ذلك زائل، يشبه ماء البحر الذى تبخرّه حرارة الواقع، ويمرّ مرورا سريعا، حتى لو استمرت مواقف تلك الدول سنوات أو عقودا، لأنها لا ترتكز إلى قوّة التاريخ والجغرافيا. يولد المصرى وفوق كتفيه تاريخ، وأمام ناظريه نماذج مؤسسة فى كل مجال، ولهذا هو لا يولد ولا يضرب فى فراغ، بل تتحرّك خطواته فى فضاء من التاريخ والحضارة، وعليه- لكى يكون جزءا من صيرورة التاريخ- أن يجعل نفسه جزءا أو عضوا فى كيان لا ينفصل عنه، تتشاكل آمال الجزء مع آمال الكل، وتتكوّن- طبقا لذلك- وحدة فى التطلعات والتوجهات. مع مصر أنت أمام دولة يبدأ منها التاريخ، وتبدأ منها الأديان، وتبدأ المُثل والآداب والأخلاق التى جسدتها الكتابات القديمة والبرديات والنقوش، وكل هذه المنطلقات والمكونات ألقت بظلالها وأثرها على الإنسان المصرى فى حلّه وترحاله، وفى لحظات هزائمه وانتصاره، وفى وقوفه الدائم بجانب الحق ونصرته، ولو أصابه ضرر، وفى مناهضته لكل أشكال الظلم والغبن. فقد كشفت لنا الوصايا الأخلاقية المدونة على جدران المعابد والمدونات والنقوش الفرعونية، فى لحظات الحرب المفصلية، المدى الأخلاقى الذى وصلت إليه الحضارة المصرية القديمة، وهى الوصايا نفسها التى جاءت بها الشرائع السماوية، والقوانين الأخلاقية الحديثة التى اعتمدتها المؤسسات الأممية فى لوائحها ومنطلقاتها. ما أريد أن أصل إليه بإلحاح- وهو شيء كشف عنه الموقف المصرى الأخير فى إيقاف الحرب- يتلخص فى كون الموقف المصري، سواء أكان فرديا أم جماعيا، سياسيا مسئولا أم لفرد عادى من أفراد الشعب، موقفا مؤسسا على تاريخ وحضارة، وكلاهما- أى التاريخ والحضارة- يتجلى فى شكل قوة تحدد التوجه، وترسم الطريق، من خلال المرتكزات التاريخية التى شكّلت بالتدريج هوية الإنسان المصري، فى بحثه الدائم عن الخير والحب والجمال، وعن إقامة العدل بين البشر. الموقف المصرى للفرد يولد ولا يصنع، ولا يمثل ذلك دعوة للاسترخاء والبعد عن الفعل والتأثير، وإنما هى دعوة لدمج الماضى التليد مع الطارف الجديد، لصناعة ديمومة واستمرار لا ينفصلان عن السابق. تعالوا نصنع «أنغام» فى كل مجال تابعت، كما تابع الملايين من الشعب المصرى والعربى والأجنبي، حفلة أنغام بعد عودتها وشفائها من أزمتها الصحية الأخيرة التى أقيمت بقاعة رويال ألبرت بالعاصمة البريطانية لندن، وأدركت كيف يمكن أن يؤسس الفنان أو الفنانة الحقيقية حضورا لذاته أولا، ولبلده ثانيا، وللفن العربى ثالثا وأخيرا. فقد وصلت أنغام إلى درجة عالية من النضج الفني، فى طريقة الأداء، وفى الوقوف على المسرح بشموخ المصرية الأصيلة، وفى الحركة الخافتة الناعمة الهامسة، وهى حركة وأداء لا يرتبطان بتوجه ارتجالي، ولكنهما كاشفان عن ثقافة، وعن تأهيل وتدريب مستمرين. ففى حفلاتها الأخيرة تخلصت أنغام من حركتها الزائدة التى يمكن أن يلمسها المتابع الجيد لحفلاتها، وهى حركة كانت تأتى فى أحيان قليلة غير مبررة، وتخلصت أيضا من ردّ الفعل الثابت مع أفعال متباينة ومتناقضة، واكتسبت الكثير من الذكاء فى حديثها عن المغنين أو المغنيات فى جيلها أو فى أجيال سابقة. وصلت أنغام إلى قمة الأداء وانسيابية الحركة على المسرح، وهذا يتطلب- وأظن أنها تعى ذلك وتدركه- مساحة من الحرص الزائد للحفاظ على منجزها، وهذا لن يتأتى إلا باستمرار الجهد والعمل. ومع يقينى بأن الوصول للنجومية أو للقمة فى أى مجال جهد ذاتى محض، إلا أن وصول الفنان إلى هذه القمة يتطلب التفاتا من المؤسسات المعنية بالترويج والتسويق لصناعة النموذج الذى تأسس، خاصة حين تكون رحلته إلى هذه القمة رحلة مضنية ومملوءة بالتعب وبذل الجهد والعطاء. كل ما أطلبه أن تلتفت المؤسسات المنوطة بالفن والأدب والثقافة والعلم، إلى النماذج الشبيهة بأنغام، والاشتغال على الإسهام فى صناعتها، والترويج والتسويق لوجودها المغاير والمختلف فى كل المجالات الثقافية والأدبية والفنية والعلمية، خاصة ونحن على أبواب نهاية الربع الأول وبداية الربع الثانى من القرن الحادى والعشرين، وهى الفترة التى بزغت فيها النماذج المصرية فى القرن العشرين، فكان لدينا أم كلثوم وعبدالوهاب، وبعدهما عبدالحليم حافظ وآخرون. وفى الأدب هناك طه حسين والعقاد، وبعدهما الحكيم ونجيب محفوظ وآخرون بالضرورة. وبوسعنا أن نقف عند كل مجال من المجالات الحيوية الفاعلة، ونعدّد نماذجه وأقطابه الفاعلين فى المدى الزمنى المناظر فى القرن الماضي. إذا كان الزمان أو التاريخ يعيد نفسه، فالمصريون على أبواب نهضة ثقافية وفنية وأدبية تحتمها حركة التاريخ، بالرغم من المعوقات التى نراها، ويراها الجميع، ولكن يتبقّى أن تخلص هذه المؤسسات لعملها، وتنقّب عن هذه النماذج، لتستكمل صقلها، وتزيل عنها التراب، وتضعها فى حيّز خاص من الاهتمام والرعاية والعناية. أعتقد أننا قادرون على صناعة (أنغام) فى كل مجال أدبى أو علمى أو فني. وهنا يجب أن أشير إلى قيمة الدور المؤسسى لصناعة النموذج، فليس هناك نموذج مصرى تشكّل أو تكوّن فى القرن الماضى فى إطار نهائى بعيدا عن دعم المؤسسة، أو المؤسسات المتعاونة التى كانت تجيد فى هذه الفترة فن صناعة النموذج أو النماذج، والترويج لها، والتأسيس لاختلافها، وتخرجها من حيّز العادي، وتحيلها- بفعل الإصرار والمداومة على التذكير بالوجود والاختلاف- إلى حيّز أو شكل الأسطورة. وليس معنى هذا أن النموذج ليس مهما فى ذاته، ولكن معناه أن النموذج بمساعدة المؤسسة من خلال التنبّه إليه، والاشتغال عليه، يمكن أن يصل إلى مسافات بعيدة، وإلى ارتفاعات سامقة، ما كان له أن يصل إليها بمفرده، حتى فى ظلّ وجود الجد والاجتهاد... فهيا بنا نصنع (أنغام) فى كل مجال .