سميحة شتا قبل ستة وأربعين عامًا، وتحديدًا فى الرابع من نوفمبر عام 1979، اقتحم طلاب إيرانيون السفارة الأمريكية فى طهران واحتجزوا 52 دبلوماسيًا أمريكيًا كرهائن لمدة 444 يومًا، فى واحدة من أكثر الأزمات الدبلوماسية تأثيرًا فى تاريخ العلاقات بين البلدين، لم تكن تلك الحادثة مجرد احتجاج عابر، بل نقطة تحول تاريخية أعادت تشكيل علاقة واشنطنبطهران، وأطلقت شرارة عداء مستمر حتى اليوم، رغم تغير الإدارات وتبدل السياقات الجيوسياسية. يرى موقع «السى ان ان» أنه منذ ذلك اليوم، تحولت إيران وأمريكا إلى خصمين دائمين، يتواجهان فى كل ساحة من ساحات الشرق الأوسط، من لبنان إلى العراق وسوريا واليمن، وحتى فى دهاليز المفاوضات النووية التى لا تزال تراوح مكانها بين التهدئة والتصعيد. اقرأ أيضًا| واشنطن تدعو رعاياها إلى سرعة مغادرة مالى منذ سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي، الحليف الأوثق لواشنطن، وصعود الجمهورية الإسلامية بقيادة روح الله الخميني، تبنت طهران نهجًا ثوريًا مناهضًا للغرب يرى فى الولاياتالمتحدة «الشيطان الأكبر» فى المقابل، اعتبرت واشنطنإيران دولة مارقة تهدد استقرار المنطقة وتسعى إلى امتلاك سلاح نووى يغيّر موازين القوى. ومع مرور الوقت، تحوّل هذا التناقض إلى عقيدة سياسية لدى الطرفين: فإيران ترى فى مقاومة النفوذ الأمريكى جزءًا من هويتها الثورية، بينما تعتبر الولاياتالمتحدة احتواء إيران أولوية أمنية لا تقل أهمية عن مكافحة الإرهاب. بعد انتهاء الحرب الإيرانيةالعراقية عام 1988، حاول الجانبان اختبار فرص التقارب، لكن جدار الشكوك كان أعلى من أى مبادرة، فى مطلع الألفية الجديدة، صنف الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن إيران ضمن «محور الشر»، وهو ما أعاد العلاقات إلى ذروة التوتر، ثم جاءت مرحلة باراك أوباما التى شهدت توقيع الاتفاق النووى عام 2015، واعتبر حينها خطوة تاريخية نحو التطبيع، لكن انسحاب إدارة دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018 أعاد الأمور إلى المربع الأول، إذ فرضت واشنطن عقوبات قاسية شملت قطاعى النفط والبنوك، وردت طهران بتقليص التزاماتها النووية وتعزيز حضورها الإقليمى عبر حلفائها فى العراق وسوريا ولبنان واليمن. ورغم مرور أكثر من أربعة عقود على اقتحام السفارة، لا تزال العلاقة بين البلدين تراوح مكانها بين التصعيد والجمود، فإيران تشترط لعودة العلاقات رفع العقوبات والاعتراف بدورها الإقليمى وحقها فى امتلاك برنامج نووى سلمي، بينما تصر واشنطن على أن أى تقارب يجب أن يسبقه تغيير جوهرى فى سياسات طهران الإقليمية ووقف دعمها لحركات تعتبرها واشنطن «إرهابية»، وبين هذين الموقفين المتناقضين، تبقى ملفات كالأمن الإقليمى والصواريخ الباليستية والعلاقة بإسرائيل عوائق يصعب تجاوزها. ويقول موقع «يورونيوز» فى الوقت الذى تحيى فيه طهران الذكرى السنوية لاقتحام السفارة الأمريكية، يخرج الآلاف فى مسيرات تهتف «الموت لأمريكا» و«الموت لإسرائيل»، وتُعرض مجسمات لصواريخ وأجهزة طرد مركزى ترمز إلى برنامجها النووي، وتشير وسائل الإعلام الرسمية إلى أن هذه الاحتفالات تأتى هذا العام فى ظل توترات متزايدة، خاصة بعد القصف الأمريكى لمنشآت نووية إيرانية فى يونيو الماضي، وإعادة فرض مجلس الأمن عقوبات أممية على طهران بعد تفعيل «آلية الزناد» من قبل الترويكا الأوروبية. أما من الناحية التاريخية، فقد بدأت الأزمة عندما اقتحم طلاب الثورة السفارة الأمريكية مطالبين بتسليم الشاه الذى كان يتلقى العلاج فى الولاياتالمتحدة بعد فراره من إيران. ردت واشنطن حينها بقطع العلاقات الدبلوماسية، وتجميد الأصول الإيرانية، وفرض عقوبات على صادرات النفط وتؤكد مصادر دبلوماسية أن تلك الخطوة كانت بمثابة إعلان رسمى لنهاية التحالف الأمريكى الإيرانى الذى امتد لعقود فى عهد الشاه، وبداية مرحلة العداء الأيديولوجى المفتوح. خلال فترة الاحتجاز، تعرض بعض الرهائن لسوء معاملة، وتحدث عدد منهم عن إعدامات وهمية وتجارب قاسية، وبحسب رواياتهم، كان الخاطفون يستخدمون العنف النفسى لإذلالهم، فيما سمحت السلطات الإيرانية ببث مشاهد لهم عبر التليفزيون الرسمى كرمز لانتصار الثورة، وقد استغلت القيادة الإيرانية تلك الأزمة لتثبيت شرعية النظام داخليًا، فيما واجه الرئيس الأمريكى جيمى كارتر انتقادات حادة لفشله فى التعامل مع الأزمة، وهو ما ساهم فى خسارته الانتخابات أمام رونالد ريجان عام 1980. وفى محاولة لإنقاذ الرهائن، قرر الرئيس كارتر تنفيذ عملية عسكرية أُطلق عليها اسم «مخلب النسر»، لكن المهمة انتهت بكارثة فى صحراء طبس الإيرانية بعد عاصفة رملية أدت إلى تحطم مروحيات ومقتل ثمانية جنود أمريكيين، كانت العملية نقطة تحول مهينة فى تاريخ الجيش الأمريكي، وأدت إلى استقالة وزير الخارجية سايروس فانس، وعمّقت مشاعر الغضب داخل الولاياتالمتحدة. وبعد شهور من التوتر، قادت الجزائر وساطة بين واشنطنوطهران أسفرت عن توقيع «اتفاق الجزائر» فى يناير 1981، والذى أُفرج بموجبه عن 52 رهينة فى اليوم نفسه الذى أدى فيه الرئيس ريجان اليمين الدستورية، تضمن الاتفاق تعهد الولاياتالمتحدة بعدم التدخل فى شؤون إيران الداخلية، وإلغاء العقوبات، والإفراج عن الأصول الإيرانية المجمدة، وقد لعب وزير الخارجية الجزائرى محمد الصديق بن يحيى دورًا رئيسيًا فى التوصل إلى هذا الحل التاريخى الذى أنهى واحدة من أطول وأعقد الأزمات الدبلوماسية فى القرن العشرين. اليوم، بعد مرور أكثر من أربعة عقود على تلك الأزمة، لا تزال السفارة الأمريكية السابقة فى طهران قائمة كمتحف يطلق عليه الإيرانيون «وكر الجواسيس»، تعرض فيه الوثائق والأجهزة القديمة وتُخلّد فيه رواية الثورة عن المواجهة مع الغرب، وبينما تسعى إيران إلى تعزيز موقفها فى المفاوضات النووية، وتواصل الولاياتالمتحدة سياسة الردع والعقوبات، تبقى العلاقة بين الطرفين أسيرة الماضي، فذكريات الرهائن وجدران السفارة المغلقة لا تزال ترسم حدود العداء الذى بدأ فى 1979، وما زال يمنع الطرفين من بناء الثقة حتى اليوم. هل يمكن أن تنكسر هذه القطيعة فى المستقبل؟ الجواب لا يزال غامضًا، لكن الواضح أن كلا البلدين يعيان استحالة استمرار العداء إلى الأبد، فإيران التى أنهكتها العقوبات بحاجة إلى متنفس اقتصادي، والولاياتالمتحدة التى تتطلع إلى استقرار الشرق الأوسط تدرك أن عزل طهران لم ينجح فى تغيير سلوكها، وبين المصالح والحسابات، تبقى العلاقات الإيرانيةالأمريكية على حافة التوازن بين الماضى والحاضر، وبين الذاكرة والسياسة، فى انتظار لحظة قد تغيّر وجه العداء المستمر منذ ستة وأربعين عامًا.