لكن أجواء العمل وروحه فى مثل هذه المناسبات الكبرى تعيد شحذ النفس بالنشاط والأمل فى تجاوز ما يقابل الصحافة الورقية من مصاعب كبرى .. أستشعر أن شهرى أكتوبر المنقضى ونوفمبر الحالى قد شهدا تدفق دماء حارة فى شرايين الصحافة الورقية وأعطياها دفقات متنوعة مع المناسبات القومية والعالمية التى احتضنتها كنانة الله فى أرضه، مصر المحروسة. أستشعر أن تلك المناسبات ما بين مؤتمر شرم الشيخ إلى افتتاح المتحف المصرى الكبير قد ضخت مزيدًا من دماء الأفكار والتغطية الصحفية التى تسابق الزمن وتخوض منافسة شرسة مع صحافة لحظية غير ورقية غالبًا تفتقد اللمسة المبدعة لصحفى يرى ما قد لا يراه غيره فيخرج بسبق يفرض نفسه على القارئ، أو محلل بالكلمة المكتوبة يحاول التعمق فيما وراء الحدث واستشراف ما بعده. صحافة اللقطة المثيرة والتغطية اللحظية الإليكترونية تفرط فى البهارات فتطلق رائحة نفاذة جاذبة ونتيجة غالبًا كاذبة.وتفتقد غالبًا إلى ضابط يحكمها وميثاق يضبط إيقاعها ويراعى صالح المتلقى قبل محاولة جذب اندهاشه وجرجرة تركيزه إليها. الأربعاء: خلية نحل صالة التحرير صحافة الورق استردت خلال تلك الأحداث القومية والعالمية نشاط صالات التحرير بها، لتصبح خلايا نحل دائبة الحركة.أقول ذلك متحيزًا لما عايشته بصحف دارنا العريقة أخبار اليوم: الأخبار وأخبار اليوم وآخر ساعة وأخبار الأدب، وما قدمته من تغطية متميزة وملاحق جاءت على أعلى درجات الثراء والجمال الشكلى والنوعى.جديرة بالاحتفاظ بها كوثائق تسجيلية وتحليلية ترصد تلك الأحداث، وتستعيد روحًا كادت أن تخبو فى صالات التحرير وعقول الصحفيين بتغطية شاملة لأحداث تستحق التسجيل والفخر، كانت فيها أم الدنيا ما بين شرم الشيخ والجيزة محطًا لأنظار كل الدنيا، وكانت أجهزتها السياسية والسيادية صانعة لأحداث شغلت العالم وكتبت سطورًا مصرية خالصة للحظات عالمية شاملة. لقد كانت تلك الأحداث ونشاط الصحافة الورقية خلالها نوعًا من اختبار الوجود على قيد حياة الإعلام المقروء الجاذب لرجل الشارع، واختبارًا فى ذات الوقت لمنافسة شرسة صعبة مع منافذ إليكترونية وصفحات شخصية تتجاوز آلياتها أى خطوط حمراء تفرضها فى غالب الأمر مصلحة الوطن وأمنه القومى، جاءت على أعلى درجات الثراء والجمال الشكلى والنوعى. كلما وجدوا ما يستثير مواطن الفكر فيهم ويعبر عما يعيشونه ويجيش فى صدورهم، وفى ذات الوقت ينقل إليهم كيف يفكر صناع القرار فيما يهمهم ويهم وطنهم. الخميس: اِلحق الطبعة الأولى لقد عادت بى هذه الصحوة أكثر من أربعين عامًا للوراء وأنا أنال نسخة من الطبعة الأولى ذات أمسية من أمسياتى الأولى بالأخبار شهر يوليو 1985. كانت النسخة من المطبعة مباشرة ذات رائحة مختلفة وطعم يحمل بعضًا من الشعور بالتميز بالمشاركة فى صنع هذا الوليد الجديد الذى سيكون بيد القراء ليلًا ثم صباحًا. كانت عربات التوزيع تأخذ دورها لتحمل كمية من الطبعة الأولى إلى القاهرة والمحافظات، بينما على ناصية شارع الصحافة هناك من الموزعين والباعة من كان يحصل على كمية من تلك الطبعة وبعض العائدين لمنازلهم مساء من أعمالهم أو من مصالح يقضونها هنا وهناك. أولئك العائدون يتجمعون حول بائع الصحف المحظوظ الذى حصل على كمية من نسخ الطبعة الأولى للأخبار وجارتها الكبرى الأهرام ومن الجمهورية التى تجاورهما عن قرب فى شارع رمسيس، وهو ينادى: اِلحق الطبعة الأولى.. أخبار، أهرام، جمهورية، والأيادى تتسابق بعدة قروش يطلب صاحبها أيًا من الجرائد الثلاث الكبرى. غاوى القراءة بتوسع يطلب الأهرام، أما هاوى الكتابة التلغرافية الأنيقة والباحث عن ريشة مصطفى حسين وتعليقات أحمد رجب الصارخة بفلسفة سريعة للسياسة والمجتمع وفكرة مصطفى أمين فيطلب الأخبار، أما هواة الرياضة فالجمهورية تخطف بصره بعناوين رياضية مثيرة تستقر على الصفحة الأخيرة مع صورة ضخمة للعبة الشعبية الأولى. اجتررت بداخلى هذا المشهد الذى كان احتفالية ليلية متكررة لمهنة صاحبة الجلالة الصحافة الورقية وتدفع للنفس آمالًا فى استعادته ثانية مهما كانت المواجهة صعبة بل غير متكافئة، لكن أجواء العمل وروحه فى مثل هذه المناسبات الكبرى تعيد شحذ النفس بالنشاط والأمل فى تجاوز ما يقابل الصحافة الورقية من مصاعب كبرى تحتاج لتكاتف كل الجهود من الدولة والمؤسسات الصحفية، كى تستعيد مهنة المتاعب «المقروءة» رونقها ووجودها فى الشارع. الجمعة: هل أنت سعيد؟ فى جلسة «سعيدة»، لمناسبة «سعيدة»، ذات ليلة «سعيدة» سألنى أحدهم: هل أنت «سعيد»؟ قلت لهم : قبل الإجابة أسألكم جميعًا عن مفهوم السعادة وكيف يراها كل منكم؟ وتوالت الإجابات تترى ما بين كهول شاب شعرهم وشباب «كَهُلت» مشاعرهم قبل أن يشيب شعرهم. أحدهم قال إن سعادته فى قدر محترم من الأموال يحقق له كل متطلباته الحياتية والترفيهية. أما الثانى فزاد على ذلك قدرًا محترمًا من الشهرة والوجاهة الاجتماعية. بينما يطلبها الثالث فى قدر محترم من الأبهة والصولجان يحقق له الهيبة بين بنى وطنه. بينما ينشد الرابع السعادة فى ست الحسن والجمال بمقومات نجمات السينما والغناء وحياء بنت الريف. لكن الخامس طلب عنقاء العصر: الحرية.... وسادس وسابع وثامن تباينوا وتباعدوا فى رؤيتهم للسعادة. لكن أحدهم خرج عن المعتاد فتمنى تعيين وزير للسعادة كما فعلت الإمارات منذ سنوات قريبة. وجاء الدور علىّ كى أوفى بوعدى فقلت لهم إننى لا أرى السعادة فقط فى مال أو جاه أو رفاهية، فكم من ثرى مهموم أتعسه ثراؤه بعدما أصابه النهم فلا يهنأ بماله ولا يقنع فيكتفى، وكم من فقير محتاج مريض أدركته القناعة والرضا فأدرك طريقه للسعادة ونَعِم بحياته. وما كانت الشهرة أو الجمال أو التقدم كافية وحدها دون إيمان وسكينة بالنفس، فكم من أدباء وفنانين وفنانات كان الاكتئاب سبيلهم إلى الانتحار والتخلص من الحياة. والأمثلة كثيرة: داليدا المطربة المصرية الفرنسية والرسام الهولندى الشهير فان جوخ وأديب نوبل أرنست هيمنجواى ومخرج أفلام التشويق تونى سكوت والأديبة الإنجليزية فرجينيا وولف. ولم تكن الأبهة والصولجان مانعة كبار من نالوها من الانتحار هزيمة أو يأسا؛ وأشهر تلك الأسماء التاريخية المنتحرة زنوبيا ملكة تدمر، وحنّا بعل «هانيبال» أحد أشهر قواد التاريخ، وكليوباترا ومارك أنطونيو، ونيرون الذى أحرق روما. وفى العصر الحديث هناك هتلر الذى أرعب العالم واجتاحه، وانتهى منتحرًا بعد اجتياح جيوش الحلفاء لبلده ألمانيا. السبت: هدف الفوز للمصريين! وقلت لهم: لا أنسى صيحة المعلق الراحل محمود بكر فى مباراة مصر أمام هولندا فى كأس العالم 1990وهو يهتف «عدالة السماء تنزل على استاد باليرمو.. هدف التعادل للمصريين»، وتذكرت أننى كنت أشاهد المباراة برفقة جار «سلفى» وقور بلحيته وتحفظه، لكنه رحمه الله تخلى عن تحفظه وقفز فى الهواء مع تسجيل هدف التعادل مهللًا «الله أكبر اللهم انصرنا». كانت قفزته تعبر عن سعادة حقيقية عاشها كل المصريين فى لحظات نادرة من التوحد على حب مصر بطريقة واحدة حتى لو كانت لهدف فى كرة القدم لكنه جسد لحظتها نوعًا من الانتصار على الصعب والقدرة على النجاح أمام قوة متقدمة رشحتها كل التخمينات للفوز السهل علينا.. تلك اللحظة عشناها ثانية منذ أيام مع الحدث الثقافى الأبرز عالميًا خلال الأعوام الأخيرة بافتتاح المتحف المصرى الكبير. كان الافتتاح وانبهار العالم كله وفرحة المصريين بخاصة يعادل تسجيل هدف الفوز ضد ظروفنا الصعبة وتحدياتنا الهائلة التى يحاولون أن يجعلوا منها حزامًا ناسفًا لهذا البلد الأمين، البقعة الأرضية الوحيدة التى تجلى الله فوق جزء منها. نعم كان هدفًا للفوز حتى لو كان صانع الهدف قدماء المصريين فقد سجله أحفادهم المعاصرون من أبناء هذا الشعب الصامد ضد أعتى الظروف فكان هدفًا ملعوبًا نتيجة لعبة جماعية مرسومة بدأت من خط دفاع وحماية هذا الوطن وسجلها رءوس حربته المخلصون .