على غرار النداء الشهير فى فيلم «حياة أو موت» عام 1954: «الدواء فيه سم قاتل»، يتكرر المشهد اليوم بصورة أكثر خطورة، بعدما وجدت شركات الأدوية المغشوشة طريقها إلى الشاشات فقد تحولت بعض القنوات إلى منفذ لترويج منتجات دوائية مجهولة المصدر تهدد حياة المواطنين فى ظل غياب الرقابة الكافية وضعف التنسيق بين هيئة الدواء المصرية وجهاز حماية المستهلك والهيئات المنظمة للإعلام، تفشت الظاهرة حتى استعان المعلنون بفنانين وتقنيات ذكاء اصطناعى لتسويق منتجات مضللة.. ورغم إصدار المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ضوابط فى فبراير الماضى للحد من هذه التجاوزات، فإن غياب التنفيذ الفعلى ما زال يطرح سؤالا ملحا: من يحمى المشاهد من «الدواء القاتل على الشاشة»؟ أكد د. حسن عماد مكاوى عميد كلية إعلام القاهرة الأسبق أن هناك جهازا لحماية المستهلك، من المفترض أن يراقب هذا الموضوع بدقة، ويجب أن يكون للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام وسائل رقابة فعالة على الإعلانات، سواء قبل البث أو بعده، وعلى القناة التى تعرض الإعلانات أن تتحمل مسئوليتها أيضًا، وتتأكد من خلو المضمون من أشكال الخداع أو التضليل للجمهور، وأما بالنسبة لشراء توقيت وفترات بث فى القنوات من جهات خارجية فيجب منعه تماما، وهذا لا يعنى أنهم معفون من الرقابة أو من تطبيق القوانين، هناك شروط ومواصفات وضوابط يجب الالتزام بها، ولا بد أن تكون تلك الضوابط مقرونة بآليات تنفيذ حقيقية، لأن الضوابط دون تطبيق فعلى تصبح بلا قيمة. اقرأ أيضًا | حازم فتح الله.. فنان لا يرحل الأكواد المهنية وأضاف ياسر عبدالعزيز الخبير الإعلامى وعضو مجلس الشيوخ: لطالما وضعت الضوابط ولم تفعّل، فالمطلوب تحريك الجهات المعنية لتطبيقها بصرامة، وأصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بالفعل قرارًا يُلزم بعدم بثّ أى إعلان عن منتج أو مستحضر دوائى إلا بعد حصوله على تصريح رسمى من الجهات الصحية المختصة، ولحل هذه المشكلة، هناك أربعة محددات أساسية، أولا: يجب أن تكون جميع المؤسسات والقنوات الإعلامية مسجَّلة رسميًا لدى المجلس، لتصبح ملزمة بالمعايير والأكواد والقرارات التى يصدرها، ثانيا: التصريح المسبق للمنتجات الطبية، أى إعلان أو منتج يتعلق بالصحة يحصل على موافقة رسمية من الجهات المختصة، ويتم إيداع نسخة من هذا التصريح لدى المجلس، ثالثا: الالتزام بالأكواد المهنية، القنوات ملزمة بأكواد المجلس ومعايير العمل الإعلامى التى تُجرِّم خلط الإعلام بالإعلان.. رابعا: ضبط المحتوى بغضّ النظر عن شراء أو تأجير البث الهوائى للبعض، يجب التحكم فى مضمون ما يقدم للمشاهد لأن بعض القنوات تبث من أقمار صناعية خارجية لا تخضع لسلطة المجلس الأعلى للإعلام، مما يجعل الرقابة عليها محدودة. حملات توعية وأضافت د. ليلى عبدالمجيد عميد إعلام القاهرة الأسبق أنه لا يجوز الإعلان عن أى دواء دون موافقة وزارة الصحة، كنا نواجه ظاهرة انتشار مثل هذه الإعلانات المخالفة، والتى كانت تُبث عبر بعض القنوات الفضائية التى نُسميها بالعامية «تحت بير السلم».. والغريب أنه فى الوقت الحالى أصبحت بعض وسائل الإعلام الرسمية المسجَّلة سواء كانت قناة أو منصة أو مواقع إلكترونية تقدم هذه الإعلانات أيضًا، رغم أن المجلس الأعلى للإعلام يراقب هذه المسألة ويتخذ إجراءات صارمة تصل إلى إغلاق القناة لفترات معينة وفرض غرامات مالية كبيرة، ومع ذلك لا تزال السيطرة على الأمر صعبة.. يجب تطبيق القانون بكل ما ينص عليه من عقوبات، إلى جانب تفعيل دور المجلس الأعلى للإعلام، كما أن النقابات المهنية لها دور مهم، الإعلامى أو الفنان يحب معاقبته، مع القنوات، نحتاج إلى توعية للجمهور، من خلال حملات توعية فى كل وسائل الإعلام والمنصات ووسائل التواصل الاجتماعي. مافيات دوائية وأوضح د. حسن على عميد إعلام السويس الأسبق أن هناك طريقين للتعامل مع المشكلة، أولًا: من خلال جهاز حماية المستهلك، وقد وضع الجهاز معايير خاصة لهذه الإعلانات، لكن للأسف لم تُفعّل، لكن الجهاز يتلقى شكاوى المواطنين ويبحثها.. أيضا هناك «الهيئة القومية للرقابة الدوائية»، وهى الجهة المسئولة عن مراقبة الإعلانات الخاصة بالأدوية والمستحضرات الطبية.. لكن المؤسسات الكبرى التى تملك نفوذًا ماليًا ضخمًا تُنفق ملايين الجنيهات على الإعلانات دون أن تُساءل، فى ظل غياب وعى عام لدى المواطنين بوجود هذه الهيئات أو دورها الرقابي. أما الجهة الثالثة فهى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، يمتلك أكوادا ومعايير خاصة بالإعلانات الطبية والغذائية، وقد شاركتُ بنفسى فى إعدادها. غير أن المشكلة تكمن فى غياب التنفيذ. إعلانات الشهادة وأوضح د. أشرف جلال عميد كلية الإعلام بجامعة السويس أن أهم ما فى الأمر توعية الجمهور نفسه، لأن هذه المنتجات ما دامت تجد سوقًا رائجًا ستظل مستمرة فى الظهور ومن الضرورى أن يتم مساءلة الفنانين الذين يظهرون فى بعض هذه الإعلانات، فهؤلاء يشتركون فيما يعرف ب «إعلانات الشهادة» (Testimonial Ads)، المعتمدة على شهادة شخص مشهور للترويج لمنتج معين. وهنا تكمن الخطورة، إذ يُستغل اسم الفنان ومكانته فى التسويق لمنتجات مغشوشة أو مجهولة المصدر، النقطة الثانية تتعلق بمباحث الإنترنت والفضائيات، ينبغى أن تتتبع هذه القنوات التى تروّج لهذه المنتجات وتحاول إغلاقها، لأنه من غير المعقول أن نظل أمام هذا السيل من المحطات الوهمية، فالمسألة تتعلق بوعى الناس، إذا رفض المشاهد هذه القنوات ومنتجاتها فلن تجد سوقًا، وتصبح تكلفة بثها أعلى بكثير من عائدها.. نقابة الأطباء واتحاد المهن الطبية مسئولان عن محاسبة الأطباء، لأن ظهور الطبيب بالمعطف والسماعة يمنح المنتج شرعية زائفة وقيمة مضافة لهذه الإعلانات، وللفنانين هناك نقابة المهن التمثيلية ونقابة الإعلاميين التى يمكنها تتبع المذيعين المشاركين. كما يُفترض أن تُصدر النقابة بيانًا رسميًا عبر صفحتها الرسمية تعلن فيه عدم مسئوليتها عن هؤلاء الأشخاص. أرواح بشرية وأشار د. على مبارك رئيس قطاع الأخبار الأسبق الى أنه بالطبع الأوضاع الاقتصادية الصعبة تدفع الناس إلى البحث عن الحلول الأسهل والأرخص، منتجات تبدو فى ظاهرها أرخص من الدواء الأصلي، لكنها فى الحقيقة قد تكون مدمّرة صحيًا.. المشكلة هنا فى الضمير المهنى والإعلامى لدى الوسيلة الإعلامية التى تسمح ببثّ هذه الإعلانات. فمن المعروف منذ سنوات أنه لا يجوز نشر أى إعلان عن منتج طبى أو دوائى إلا بعد الحصول على موافقة وزارة الصحة، وأن يكون الإعلان مصحوبًا بإثبات هذا التصريح. وبصيغة الإعلان ملائمة للمتلقي، خاصة الفئة العمرية الصغيرة، لأننا نرى للأسف إعلانات تتضمن عبارات أو إيحاءات جنسية فجة، تُعرض فى أوقات يشاهدها الأطفال! هذا أمر غير مقبول أخلاقيًا ولا مهنيًا، ولو أردنا ترتيب المسئوليات، فهى كالآتي: اولا الضمير الإعلامى لرئيس القناة أو الموقع، ثانيا وزارة الصحة المختصة بالتصريح والإجازة لأى منتج دوائي، ثالثا المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، يفعّل أكواده ومعاييره الرقابية على هذه الإعلانات، رابعا جهاز حماية المستهلك، يتلقى الشكاوى ويتحرك لحماية المواطنين من التضليل، لأننا نتعامل مع أرواح بشرية وليس مجرد سوق للمنتجات.