بعيدًا عن أضواء برج إيفل وشوارع الشانزليزيه، تعيش فرنسا معركة يومية ضد خصم خفي ومعقد، عبارة عن شبكات من الجريمة المنظمة في مختلف المجالات، ولم تعد تقتصر على الصور النمطية القديمة للعصابات، بل تحولت في بعض المجالات إلى كيانات عابرة للحدود ومتعددة الجنسيات. في السنوات الأخيرة، أصبحت تلك المنظمات على اختلاف أنواعها تشكل خطرًا متزايدًا على فرنسا، بعد أن باتت تستفيد من التقدم التكنولوجي لتعزيز نفوذها وزيادة أرباحها الطائلة، مما شكل ما يعرف باسم الاقتصاد الإجرامي الذي تعد تجارة المخدرات هي العمود الفقري له. اختلفت أشكال تلك المنظمات الإجرامية، التي مع مرور الزمن تغلغلت في الاقتصاد الحقيقي، وغسل الأموال عبر الاستثمار والإتجار في البشر والمهاجرين والإتجار غير المشروع في السلاح، بجانب أنشطة أخرى مختلفة من أبرزها شبكات المافيا التي تنقل النفايات عبر الحدود الفرنسية. في مقدمة تلك المنظمات والشبكات تقف تجارة المخدرات على رأس القائمة، والذي وفقًا للتقديرات التي نشرتها لجنة التحقيق في تأثير الإتجار بالمخدرات في فرنسا، فإن سوق المخدرات يولد ما لا يقل عن 3.5 مليارات يورو، ويبلغ الحد الأقصى حوالي 6 مليارات يورو، في حجم التداول السنوي، وذلك ل 5 ملايين مستخدم للقنب وحوالي مليون مستخدم للكوكايين، وهما أكثر المخدرات غير المشروعة استهلاكًا في البلاد، وتسهم في غالبية الإيرادات. وتكمن خطورة تلك الشبكات في أنها خلال السنوات الأخيرة، كانت سببًا في عودة ظهور العنف في البلاد، بعد سجل بلغ 367 حادثة مماثلة في عام 2024، أي ما يقرب من 50٪ أكثر من المستوى الذي تم قياسه في عام 2022، وفقا لموقع الإحصائيات fr.statista. شبكات عابرة للقارات ويعود ذلك إلى أنه مع تزايد كمية المخدرات غير المشروعة المتاحة وتنوع مصادرها، واجه تجار المخدرات منافسة متزايدة لبيع منتجاتهم، مما أدى إلى تصاعد العنف في هذه المناطق، حيث تعتبر مدينة مارسيليا واحدة من أكثر المدن تأثرًا بالعنف الإجرامي بين العصابات المتنافسة على السيطرة في الأحياء الفقيرة. وكشف تقرير المخدرات العالمي الأخير في 2025، عن تمدد تلك الشبكات المرتبطة بالمخدرات وأصبحت عابرة للقارات، خاصة سوق تجارة الكوكايين، والتي كانت تجارتها محصورة من قبل في أمريكا اللاتينية، إلا أنها في السنوات الأخيرة انتشرت في أوروبا الغربيةوفرنسا، مما عزز نفوذ جماعات الجريمة المنظمة من غرب البلقان في تلك الأسواق. وفي محاولة لمواجهة ذلك الخطر، قدمت لجنة التحقيق التابعة لمجلس الشيوخ الفرنسي تقريرًا العام الماضي، وضعت خلاله 35 مقترحًا لمكافحة الإتجار في المخدرات، ولكنها في الوقت نفسه رسمت صورة لبلد غارق في سوق المخدرات الإقليمية، يعاني من توسع في التجارة وفساد المسئولين الحكوميين ونقص الموارد اللازمة لمكافحته. رأس المال الإجرامى وبحسب تقرير خطير نشرته Lesechos، تبين أن المنظمات الإجرامية وفي ظل الاقتصادات الليبرالية، تمكنت من إدخال رأس المال الإجرامي إلى الاقتصاد القانوني وغسل الأموال، وهو ما وصفته بأنه تعايش يتم بين الاقتصادين القانوني وغير القانوني ويتراكم مع مرور الوقت، ويقوض أداء الاقتصاد وثقة المواطنين بالمؤسسات. ويرتكز توسع قبضة المنظمات الإجرامية على الاقتصاد القانوني على الاستخدام المستمر للفساد، وتتحمل فرنسا بصفتها أحد أكبر الاقتصادات المفتوحة في العالم وجزء من السوق الأوروبية المشتركة، العبء الأكبر من محاولات الجماعات الإجرامية للسيطرة على قطاعات معينة من اقتصادها من قبل الشركات المملوكة للمنظمات الإجرامية. وأسهم التحول الرقمي السريع للمنظمات الإجرامية، خلال العشر سنوات الماضية، في تزايد العنف المرتبط بالجريمة المنظمة في المدن الرئيسية وامتد إلى المجتمع ككل، حيث بات يتحرك العنف مع الأسواق الإجرامية التى تتسم بالتنافس والصراع في العواصم والمدن، ويزداد خطورته بفضل أدوات الاتصال المشفرة والمنصات الإلكترونية التي تسهل التجنيد والابتزاز والتنسيق عبر الحدود. الوجه الجديد للإجرام وباتت السوشيال ميديا، ملاذًًا آمنًا لشبكات إجرامية، ازدادت خطورتها بفضل أدوات الاتصال المشفرة والمنصات الإلكترونية التى تسهل التجنيد والتنسيق، حيث يتغذى هؤلاء على الابتزاز عبر التهديدات والتشهير ونشر الصور والمقاطع وسرقة الهوية والأموال، وأصبحت أيضا ملعبًا لمستغلي الأطفال . وتشكل جرائم البيئة الوجه الجديد للإجرام المنظم في فرنسا، والتي برزت في السنوات الأخيرة وتعمل على تهريب ودفن مئات الآلاف من الأطنان من النفايات الصناعية وسرقة الرمال من الشواطئ والأنهار لاستخدامها في البناء بشكل غير قانوني، بأرباح تقدر بعشرات الملايين من اليوروهات. في بلدية ريدانج، وهي قرية على الحدود مع لوكسمبورج، وفقا لموقع senat الفرنسي، تعد مكانًا لأكوام ضخمة من النفايات، التي يكلف جمعها مئات الآلاف من اليورو، وهو ما وصف بالتلوث المنظف، تقف خلفه جماعات مافيا متخصصة، وهي سوق غير مشروعة تُقدر قيمتها بنحو 10 مليارات يورو في أوروبا. شبكات متخصصة وتعرض جماعات المافيا نقل النفايات عبر الحدود الفرنسية بأسعار لا تُضاهى، إلا أن هذه النفايات لا تصل أبدًا إلى مراكز الفرز، بل تُلقى في البيئة بشكل غير قانوني، مما يُثير استياء السلطات الفرنسية المحلية، وشملت عمليات الإتجار نفايات بناء، بالإضافة إلى تراب ورمل وجص أي الجبس، يُرجّح أنها ملوثة، لا سيما بالكروم والأسبستوس. وبحسب المدعيه العامة في ليل، كارول إتيان، وجهت تهم إلى سبعة أشخاص، وكشفت عن أن تلك المواد يتم استيرادها بدون تصريح من بلجيكا وإعادتها إلى فرنسا لدفنها بشكل غير قانوني في مواقع عديدة، أو حرقها، أو إلقائها في صناديق القمامة البلدية، أو» تسليمها «بتكلفة منخفضة إلى أطراف ثالثة من خلال نظام فساد السائقين. كما تعج المحاكم الفرنسية بعشرات القضايا المتعلقة بالشبكات المتخصصة في سرقة اللوحات الفنية والمجوهرات، حيث شهدت السنوات الماضية عشرات السرقات المختلفة لأفخم وأشهر المحلات والمتاحف في باريس والمدن المجاورة، حيث تتسبب تلك الجماعات أيضًا في خسائر بالملايين لأصحابها. مدينة كان الصاخبة في فرنسا، بدورها عاشت الصيف الماضي واحدًا من أسوأ المواسم السياحية لها على الإطلاق، حيث وقعت المدينةالباريسية فريسة لسلسلة من العمليات الممنهجة لعمليات السرقة على يد عصابات، وصفته وسائل الإعلام بأنه حلقة أخرى من مسلسل الظلام الذي يضرب مدينة السينما، وسجلت الشرطة العشرات من عمليات السرقة التي قدرت القيمة الإجمالية للأضرار فيها بما يقارب 6 ملايين يورو. رد فعل ولكن الحكومة الفرنسية لم تقف مكتوفة الأيدي أمام توسع تلك المنظمات وتنوعها، حيث سارعت بتشكيل هيئات جديدة وتشكيل تحالفات عابرة للقارات أحيانا لمواجهتها، حيث أسست عام 2022 مكتب مكافحة الجريمة المنظمة، التابع للشرطة القضائية، وهو القلب النابض لعمليات مكافحة الجريمة المنظمة اليومية. كما تعد فرنسا عضوًا فعالًا في الإنتربول واليوروبول، وتشارك في تحقيقات ومهمات مشتركة مع دول مثل إسبانيا وبلجيكا وإيطاليا لمطاردة زعماء الجريمة العابرة للحدود، وتمكنت وفقا للإحصائيات الرسمية من تفكيك أكثر من 1,200 شبكة إجرامية سنويًا، وإلقاء القبض على عشرات الآلاف من المشتبه بهم المرتبطين بهذه الشبكات. وصادرت السلطات المحلية أصولا تقدر قيمتها بمئات الملايين من اليوروهات تشمل عقارات وسيارات فاخرة ونقود، في إطار استراتيجية «ضرب الجيب المالي» للشبكات الإجرامية، والتي ينفذها جهاز الدرك الوطني والشرطة لتنظيف الأحياء من تجارة المخدرات الصغيرة، والتي أسفرت عن آلاف الاعتقالات. ووفقا للخبراء، فإن السلطات في هذا الأمر تواجه تحديات جسيمة تتمثل في لا مركزية تلك المنظمات مما يجعل من الصعب القضاء عليها تمامًا، بجانب القوة المالية الهائلة التي تمتلكها تلك الشبكات خاصة شبكات تجارة المخدرات، والتي تمكنها من شراء الصمت واختراق دوائر الاقتصاد والمجتمع. ووفقا لهم تخوض فرنسا معركة طويلة الأمد من أجل الحفاظ على سلامة الدولة ومؤسساتها وقيم الجمهورية، مشيرين إلى أن النجاح الحقيقي لن يأتي فقط من الضربات الأمنية بل من خلال التوازن بين تطبيق القانون ومكافحة غسيل الأموال وتعزيز التعاون الدولي ومعالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي تخلق التربة الخصبة لتجنيد الأفراد في هذه الشبكات. اقرأ أيضا: تحت النار.. السجون الفرنسية في مواجهة انتقام تجار المخدرات