منذ عقودٍ طويلة، يقف لبنان الصغير بجغرافيته المحدودة أمام كيانٍ ضخم الطموحات، لا يعرف الشبع ولا يكتفى بالحدود المرسومة له فإسرائيل، التى قامت على فكرة التوسع والأمن الدائم، لا ترى فى حدودها الشمالية خطًا ثابتًا بقدر ما تراه جدارًا مؤقتًا يمكن تجاوزه متى توافرت الظروف ولأن لبنان يشكّل خاصرتها الشمالية الحساسة، فقد ظل حاضرًا فى عقلها الإستراتيجى، هدفًا تارةً ومصدر قلقٍ دائم تارةً أخرى فكل أزمة داخلية فى لبنان، وكل اضطراب فى الجنوب، يوقظ فى تل أبيب شهوة السيطرة ويعيد إلى الواجهة أطماعها القديمة بثوبٍ جديد. منذ قيام الكيان الاسرائيلى عام 1948، لم يغب لبنان عن خريطة أطماعها الإستراتيجية، رغم صغر مساحته وضعف قدراته العسكرية مقارنةً بجيرانه فلبنان، بموقعه الجغرافى الفاصل بين سوريا وفلسطين المحتلة، وبساحله الممتد على البحر المتوسط، يشكل لإسرائيل هدفًا مركبًا يجمع بين البعد الأمنى والسياسى والاقتصادى إسرائيل ترى فى لبنان أكثر من مجرد جارٍ شمالى فهو بالنسبة لها مصدر تهديد محتمل من جهة، وفرصة توسّع وموطئ نفوذ من جهة أخرى. منذ الاجتياح الإسرائيلى عام 1982 وحتى اليوم، سعت تل أبيب إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: أولها تحييد المقاومة اللبنانية ومنعها من تشكيل خطر دائم على حدودها الشمالية، وثانيها السيطرة غير المباشرة على القرار السياسى فى بيروت عبر دعم قوى موالية أو الضغط الدبلوماسى والاقتصادى، وثالثها محاولة فتح قنوات لترسيم حدود بحرية تمنحها أفضلية فى استغلال الثروات الغازية والنفطية فى البحر المتوسط. اقرأ أيضًا | استشهاد شخص وإصابة آخر في استهداف إسرائيلي جديد جنوبي لبنان فلبنان يمتلك احتياطيات غاز واعدة فى مياهه الاقتصادية، وهو ما جعل إسرائيل تتحرك بخطى حثيثة لترسيم الحدود البحرية بما يخدم مصالحها، حتى تمّ الاتفاق المرحلى بوساطة أمريكية عام 2022 لكن رغم التوصل لذلك التفاهم، ما زالت إسرائيل تتصرف وكأنها الطرف الأقوى القادر على فرض وقائع جديدة متى شاءت، خصوصًا فى ظل حالة الاضطراب السياسى والاقتصادى التى يعيشها لبنان وتستغل تل أبيب هذا الضعف لتمرير ما تسميه «أمن الطاقة»، بينما فى جوهره محاولة لاحتكار موارد المنطقة وإبعاد أى منافسة لبنانية أو سورية أو حتى قبرصية. أما على الصعيد الأمنى، فإن المواجهة بين حزب الله وإسرائيل تمثل جوهر الصراع الدائم. فتل أبيب تعتبر الحزب ذراعًا إيرانية تهدد توازن الردع الذى تحاول فرضه فى المنطقة، ولذلك فهى لا تتردد فى شنّ ضربات متفرقة أو اغتيالات أو تهديدات مباشرة للبنان تحت شعار «الدفاع الوقائى» غير أن هذه العمليات غالبًا ما تُقابل بردود محسوبة من الحزب، ما يبقى التوتر على حافة الانفجار دون أن يتحول إلى حرب شاملة. ومع تصاعد الجبهة الجنوبية فى ظل الحرب الإسرائيلية على غزة، عاد لبنان إلى واجهة المشهد، إذ تخشى إسرائيل من أن يتحول الشمال إلى جبهة ثانية تستنزفها سياسيًا وعسكريًا. سياسيًا، تحاول إسرائيل أيضًا اللعب على التناقضات الداخلية اللبنانية. فتنوع الطوائف والانقسامات المزمنة فى النظام اللبنانى يتيح لها كما فى فترات سابقة استغلال بعض القوى أو تغذية الانقسامات بهدف إضعاف الموقف الوطنى الموحد تجاهها. ويكفى التذكير بأن الاحتلال الإسرائيلى للجنوب استمر نحو 22 عامًا بفضل دعم بعض الميليشيات المحلية آنذاك. واليوم، تستخدم إسرائيل الحرب النفسية والإعلامية لتأليب الرأى العام اللبنانى ضد حزب الله، وتحميله مسئولية تدهور الأوضاع، فى محاولة لعزله سياسيًا واجتماعيًا. اقتصاديًا، تدرك إسرائيل أن لبنان الغارق فى أزماته المالية يمكن أن يكون ساحة خصبة لفرض نفوذ غير مباشر من خلال الضغط على المانحين الدوليين وتوجيه الاستثمارات المستقبلية بما يضمن إبعاد لبنان عن محور المقاومة، وربطه أكثر بالمشروعات الإقليمية التى ترعاها الولاياتالمتحدة وتخدم فى النهاية أمن إسرائيل ومصالحها الاقتصادية. لكن رغم هذه الأطماع، يبقى لبنان عصيًّا على الإخضاع الكامل. فذاكرة الاحتلال الطويلة ما زالت حاضرة، والمجتمع اللبنانى رغم انقساماته يدرك أن أى تساهل فى مواجهة إسرائيل يعنى خسارة الأرض والسيادة والكرامة كما أن التحولات الإقليمية، بعد صعود محور المقاومة وتعزيز الدور الإيرانى، جعلت إسرائيل تتعامل بحذر أكبر مع لبنان، خاصة بعد تجربة حرب 2006 التى لم تحقق فيها انتصارًا حاسمًا. وفى ضوء التطورات الجارية فى الجنوب اللبنانى مع استمرار العدوان على غزة، تبدو أطماع إسرائيل فى لبنان متجددة ولكنها أكثر حذرًا. فهى ترغب فى توجيه ضربة قاصمة للمقاومة، لكنها تخشى من توسع المواجهة إلى حرب إقليمية شاملة. لذلك تميل فى هذه المرحلة إلى الضغط الميدانى والإعلامى والدبلوماسى دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة، بانتظار لحظة تراها مناسبة لتحقيق أهدافها بأقل تكلفة. إن أطماع إسرائيل فى لبنان ليست وليدة اللحظة، بل هى امتداد لمشروعها القديم القائم على الهيمنة الإقليمية وضمان التفوق الأمنى والاقتصادى. غير أن الواقع اللبنانى، برغم هشاشته، يظل معقدًا بما يكفى ليحبط تلك الأطماع، فلبنان كان وسيبقى عقدة فى حسابات تل أبيب، لا يمكن السيطرة عليه بالكامل، ولا يمكن تجاهل تأثيره فى معادلة الصراع العربى الإسرائيلى. ما يغيب عن حسابات إسرائيل دائمًا هو أن الشعوب لا تُقهر مهما طال زمن الضعف. فلبنان الذى نجا من الاجتياحات والحروب والاحتلال، ووقف من بين الرماد مرارًا، ما زال يحمل فى ذاكرته معنى الكرامة التى لا تُشترى ولا تُباع. قد تملك إسرائيل الطائرات والصواريخ والضغط الدولى، لكنها لا تملك القدرة على كسر إرادة وطنٍ تعوّد أن يعيش على حافة النار دون أن ينكسر. لذلك ستظل أطماعها تصطدم دائمًا بجدارٍ من الصمود اللبنانى، صمودٍ لا يقوم على القوة فقط، بل على إيمانٍ عميق بأن الحرية والسيادة ليستا مجرد شعارات، بل حقٌّ يُصان بالدم والتاريخ والموقف.