لم تكن استغاثة عادية تصل إلى غرفة عمليات الإسعاف، ولم يكن طريق الإنقاذ ممهدًا كما جرت العادة. لكن عندما يتعلق الأمر بحياة إنسان، لا تعرف روح رجال الإسعاف المصريين معنى المستحيل. وفي واقعة استثنائية تشبه المشهد السينمائي، نجح فريق إسعاف في إنقاذ سائحة إسبانية سقطت داخل ممر هرم سنفرو المنحني بدهشور، في واحدة من أصعب وأخطر عمليات الإنقاذ التي شهدتها منطقة الأهرامات على الإطلاق. * بلاغ من داخل الهرم بدأت القصة عندما تلقى المسعف أحمد علي حمودة وزميله السائق علي حسن عبد المجيد بلاغًا عاجلًا بوجود مصابة في نطاق هرم سنفرو المنحني بمنطقة دهشور الأثرية جنوبالجيزة. انطلقا فورًا بسيارة الإسعاف إلى الموقع، دون أن يتخيلا أنهما في طريقهما إلى مهمة تحمل طابعًا تاريخيًا وإنسانيًا فريدًا. فور وصولهما إلى محيط الهرم، كان الصوت يعلو من الداخل، صيحات استغاثة تأتي من عمق الهرم ذاته، لا من محيطه الخارجي كما ظنّا. وهنا أدرك المسعفان أن أمامهما تحديًا غير مسبوق، لا يعتمد فقط على المهارة الطبية، بل أيضًا على الشجاعة والقدرة على العمل في بيئة أثرية مغلقة وصعبة. - نزول إلى قلب التاريخ يحمل هرم سنفرو المنحني أسرارًا معمارية فريدة؛ فمدخله مرتفع بعدة أمتار عن سطح الأرض، ويقود إلى ممر داخلي مائل بزاوية 26 درجة تقريبًا، وبطول يصل إلى 80 مترًا. ذلك الممر الخشبي الضيق لا يتسع إلا لشخص واحد في كل مرة، ومع إضاءة خافتة ونقص الأكسجين، كان النزول إليه مغامرة حقيقية. حمل المسعفان حقائب الإسعاف وأجهزتهما الطبية، وبدآ في النزول بحذر وسط الممر الحجري المائل. كان الهواء يزداد ثِقَلًا، والرؤية تضعف كلما توغلا في الداخل، لكن الإصرار على الوصول إلى المصابة كان أقوى من التعب والخوف. - المصابة في عمق الهرم بعد رحلة نزول شاقة، وصلا إلى قاعة داخلية تتوسطها السائحة الإسبانية، التي كانت ترقد على الأرض متألمة، بجوارها زوجها الذي لم يصدق عينيه حين رأى المسعفين. كانت تعاني من اشتباه كسر في القدم بعد سقوطها على المنحدر الخشبي أثناء جولتها السياحية داخل الهرم. لم يكن الصعود بها بالأمر السهل، فالممر ضيق ويميل للأسفل، ولا يسمح بأي حركة خاطئة. لكن رجال الإسعاف لم يترددوا للحظة — بدأوا فورًا في إسعافها الأولي، وتثبيت القدم المصابة باستخدام الحزام العنكبوتي والبوردة الصلبة لتأمين حركتها. - رحلة صعود مستحيلة بدأت بعدها رحلة الصعود التي وُصفت بأنها "مستحيلة"، بمساعدة حراس الهرم، راح المسعفان يسندان النقالة ويزحفون أحيانًا على أيديهم وركبهم، لتجنّب انزلاق السيدة أو سقوطها مجددًا، كل متر كان تحديًا جديدًا، وكل خطوة كانت أقرب إلى النور الذي يلوح في نهاية الممر المائل. ورغم الإجهاد ونقص الهواء، لم يتوقف أحد منهم للحظة، كانت الإرادة المصرية أقوى من كل صعوبات المكان، حتى خرج الفريق أخيرًا من بوابة الهرم إلى ضوء الشمس، وسط تصفيق الحاضرين وانفعال زوج السائحة الذي لم يجد كلمات ليعبّر بها عن امتنانه. - نصر إنساني يسجله أحفاد الفراعنة الواقعة لم تمر مرور الكرام، إذ أصدر المركز الإعلامي لهيئة الإسعاف المصرية بيانًا رسميًا أشاد فيه ببطولة الفريق المنفذ للعملية، مؤكدًا أن ما حدث "يعكس روح العطاء والتفاني التي يتمتع بها رجال الإسعاف المصريين، الذين لا يترددون في خوض أي خطر لإنقاذ حياة إنسان". وأضاف البيان "إن عملية الإنقاذ داخل هرم سنفرو تُعد من أكثر المهام تعقيدًا وصعوبة، ليس فقط من الناحية الطبية، بل من حيث طبيعة المكان المغلق وضيق الممرات، ومع ذلك نجح رجالنا في تحويل المهمة إلى ملحمة إنسانية بطولية". - صورة مشرفة لمصر أمام العالم أكدت مصادر بوزارة السياحة والآثار أن السائحة الإسبانية تلقت الرعاية الطبية الكاملة بعد خروجها من الهرم، وتم نقلها إلى المستشفى في حالة مستقرة، مشيدة بسرعة استجابة الإسعاف المصري وكفاءته في التعامل مع الموقف. وأضافت أن هذه الواقعة أظهرت مدى جاهزية منظومة الطوارئ المصرية في المواقع الأثرية، خاصة في المناطق الحساسة التي تشهد زيارات دولية متكررة. بين جدران الهرم العتيق، وتحت أحجاره التي تروي تاريخ آلاف السنين، كتب رجال الإسعاف المصريون فصلًا جديدًا من فصول البطولة، لم تكن مجرد عملية إنقاذ، بل كانت رسالة إنسانية من مصر إلى العالم: أن في هذه الأرض رجالًا، إذا سمعوا نداء الاستغاثة، لبّوا بلا تردد، حتى لو كان الطريق إلى الحياة يمر عبر أعماق الأهرام. هكذا تصنع البطولة الحقيقية... في صمت، وبعمل، وبقلب لا يعرف المستحيل.