ساذج من يعتقد أنه سيكون هناك احتلال تقليدى وخط بارليف وموانع حصينة فقد تعلموا الدرس. سألنى صديق هل يمكن أن تكون حرب أكتوبر 73 هى الأخيرة فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى؟.. أخبرته بأن مصر دولة سلام لا تعتدى على أحدٍ وتستخدم قوتها للدفاع عن ترابها وحماية أمنها القومى وبالتالى نحن لسنا دعاة حرب.. التحليل العميق للواقع والصراع يذهب إلى أبعد من الرغبة المصرية فى السلام.. الخبراء العسكريون يرون فى كتبهم وتحليلاتهم أن حرب أكتوبر هى «الجولة الرابعة» وليست المعركة الختامية.. أكتوبر عندهم تأتى ضمن سلسلة جولات سبقتها فى أعوام 1948 و1956 و1967، ويتوقعون جولات أخرى قادمة، وذلك بناءً على قراءة متعمقة للعقل الإسرائيلى الذى لا يزال يرى فى سيناء وغيرها من الأراضى العربية حقًا دينيًا وتاريخيًا مكتسبًا خاصة مع ازدياد تطرف اليمين الإسرائيلى الذى لا يزال يحلم ويعمل على حدود من النيل إلى الفرات. فى حرب الإبادة الأخيرة على غزة، شاهدنا أطماعهم التوسعية فى سوريا ولبنان والمضى قدمًا فى المزيد من الاستيطان فى فلسطين، وتفكيرهم مجددًا فى سيناء من خلال مشروع تهجير الفلسطينيين، وهو ما يشير إلى أن هناك جولات أخرى قادمة طالما ظل العقل الإسرائيلى يعمل ويفكر بنفس الطريقة ويجد من القوى العظمى من يدعمه.. يُحسب لمصر، رئيسًا وشعبًا، وقوفهم صامدين أمام كل المخططات والضغوط القوية لعرقلة مشروع التهجير الفلسطينى. أرى أن الجولات الأخرى القادمة لن تكون بالضرورة شبيهة بجولة أكتوبر 73، وساذج من يعتقد أنه سيكون هناك احتلال تقليدى وخط بارليف وموانع حصينة بل ستكون هناك خطوط الهواتف المحمولة وألياف الإنترنت وسيتم بناء الموانع داخل العقول، فالجولة أو الحرب القادمة ستكون أدواتها مختلفة وإن كانت القوة العسكرية عاملًا مهمًا وحاسمًا فيها. وقد ظهر ذلك جليًا فى تصريحات بنيامين نتنياهو مجرم الحرب فى 27 سبتمبر الماضى خلال لقاءٍ مع مؤثرين فى نيويورك عندما قال نصًا: إن «أسلحة العصر ستكون مختلفة، وإن منصات التواصل الاجتماعى هى «السلاح» الأهم لتأمين القاعدة المؤيدة لإسرائيل فى الولاياتالمتحدة والعالم واصفًا صفقة شراء «تيك توك» بأنها «أهم عملية شراء»، ودعا إلى التواصل مع إيلون ماسك صاحب منصة «إكس» باعتباره صديقًا وليس عدو».. هذه المنصات ستلعب دورًا مهمًا فى السيطرة على العقول وتغذية السخط ونشر الرواية الإسرائيلية خاصة عند أجيال تتلقى ثقافتها ومعلوماتها عبر هذه المنصات، فتروج للشائعات وكأنها حقائق، وتنقل الكآبة وتزرع الشك كعدوى فيروسية. أحد أبناء «جيل زد» سألنى ذات مرة: «ما أدراك أننا انتصرنا فى حرب أكتوبر؟ وما أدراك أنها لم تكن سوى مسرحية جيدة الصُّنع؟»، وأجبته وما أدراك أن اسم والدك فى شهادة ميلادك حقيقى؟!.. إن زراعة الشك والإنكار أصبحت سمة عند معظم أجيال الألفية، فالكثير منهم لا يبحثون ولا يلتهمون سوى المعلومات المعلبة فى مقاطع الفيديو وظلام منشورات مواقع التواصل وليس فى مواقع الأبحاث والتاريخ الموثوقة. ولا يمكن هنا إغفال تصريحات المبعوث الأمريكى الخاص إلى سوريا «توم براك» الذى قال بعنجهية العالم ببواطن الأمور إن السلام فى الشرق الأوسط «مجرد وهم»، قائلًا: «لم يكن هناك سلام فى الشرق الأوسط من قبل. وربما لن يكون هناك سلام أبدًا؛ لأن الجميع يقاتلون من أجل الشرعية». بالطبع لم يُفسّر مستر «توم» للمذيعة الأنيقة أن السلام لغة لا يفهمها «الرجل الأبيض» المتمسك بالمنطقة العربية الغنية بالثروات وإلا أين سيتم استهلاك ملايين الطلقات ومئات الآلاف من الصواريخ التى تنتجها المصانع الغربية.. هل ستوضع فى المخازن حتى انتهاء صلاحيتها؟! إن الجولة الثانية من السلام الذى شهدناه يُصنع داخل شرم الشيخ هو صناعة مصرية عربية.. سلام صنعته قوة الإرادة والتصميم المصرى والضغط الدولى الذى جاء لمنع أى تهجير واستهجان للإبادة وإدراك الاحتلال أنهم لا يحققون مكاسب من التمادى أكثر بعد أن نبذهم العالم وتحولوا إلى مجرمى حرب. هذا السلام فى اعتقادى سيظل هدنة مؤقتة طالما ظل هؤلاء المتطرفون أمثال سموتريش وبن غفير وغيرهما على رأس العقلية الإسرائيلية. اليقظة والانتباه هما خيارنا الوحيد. الاستعداد والتطوير العسكرى لا غنى عنهما.. لكن لابد معهما من خوض معركة الوعى، وبناء مناعة فكرية ضد حروب التضليل وتعزيز الرواية التاريخية المصرية القائمة على الحقائق. فالجولة الخامسة قادمة والساذج فقط من يعتقد غير ذلك.