الغربية: محمد عوف على كورنيش منطقة المرشحة بمدينة طنطا، حيث تتسم تلك المنطقة بالهدوء، وقفت سيارة ملاكي على جانب الطريق في مشهد عادي للمارّة الذين اعتادوا سكون المكان، لكن خلف زجاجها كانت تختبئ واحدة من أبشع الجرائم التي هزّت قلوب أهالي الغربية، جريمة قتل عائلية في لحظة فقد فيها الشيطان صوته، وتكلم الغضب بحد السكين. بدأت القصة عندما تلقّى اللواء أسامة الهواري، مدير أمن الغربية، إخطارًا من شرطة النجدة يفيد بالعثور على رجل داخل سيارته غارقًا في دمائه بكورنيش قحافة بمدينة طنطا، وفي غضون دقائق قليلة انتقلت سيارة الشرطة والإسعاف إلى المكان، ومع وصولهم كانت أنظار العشرات من المواطنين تتجه نحو السيارة في صمت ثقيل، كأن الزمن توقف، المشهد كان قاسيًا: جسد رجل تجاوز الستين، مائل على المقعد الأمامي، والدماء تغطي ملابسه، لم يجرؤ أحد على الاقتراب، واكتفى الجميع بتبادل النظرات وصوت واحد يتردد بين الحاضرين: «مين اللي عمل كده»؟! المعاينة الأولية كشفت عن هوية الضحية: أحمد عبد الفتاح عتمان، رجل أعمال يبلغ من العمر ستين عامًا، وأحد أبناء قرية شبشير الحصة التابعة لمركز طنطا، معروف بين الأهالي بأنه طيب الخلق، صاحب أيادى بيضاء، يعمل في مجال إنتاج وتجارة عسل النحل، مشروع ورثه عن والده وسار به طريق الكفاح والشقاء حتى صار من أنجح منتجي العسل في المنطقة، عُرف عنه أنه رجل مسالم، لا يتدخل في مشكلات أحد، لكنه وبحكم أنه كبير عائلته يحمل في صدره همًّا عائليًا لم يعرف أحد حجمه ولا نهايته. كشف الجريمة لم تمر ساعة على وقوع الجريمة حتى نجحت الأجهزة الأمنية بمديرية أمن الغربية في كشف ملابسات الحادث، بعد أن تشكل فريق بحث قاده الرائد أحمد جمعة رئيس مباحث قسم ثان طنطا وتحت إشراف اللواء محمد عاصم، مدير المباحث الجنائية، تم تتبع خط سير المجني عليه من خلال كاميرات المراقبة المثبتة على طول الكورنيش، كما فحصت علاقاته الأسرية والمالية، إلى أن توصلت التحريات إلى مفاجأة صادمة: القاتل لم يكن غريبًا.. بل أحد أقاربه. التحريات أوضحت أن خلافًا ماليًا نشب بين المجني عليه والمتهم، الذي يُدعى محمود (37 عامًا)، وهو من أقارب الضحية من نفس القرية، كانت بينهما تعاملات تجارية في مجال العسل، وترتب عليها مديونية مالية كبيرة لصالح المجني عليه، حاول الأخير مرارًا استرداد أمواله ودّيًا، لكن المتهم كان يماطل ويتهرب، ومع تفاقم الخلاف، لجأ رجل الأعمال إلى القضاء واستصدر حكمًا يلزم قريبه بالسداد، فاشتعلت النار في صدر الأخير، الذي اعتبر الأمر «فضيحة» أمام الناس، وبدأ يهدد ويُلوّح بالانتقام، وقبل الواقعة بأسبوع التقى مع نجل المجني عليه، وقال له صراحة: «قول لأبوك لو ما بطلش يطاردني في المحاكم، هقتله وهريّح نفسي، لم يأخذ أحد التهديد على محمل الجد، ظنوه انفعالًا عابرًا، لكن ما لم يتخيله أحد، أن الجملة كانت وعدًا شيطانيًا سيتحقق بعد أيام قليلة. في يوم الحادث، خرج الضحية أحمد عبد الفتاح عتمان من منزل ابنه بعد أن تناول الإفطار معهم في قرية شبشير، حيث كان صائمًا ذلك اليوم، متجهًا إلى طنطا حيث كان على موعد مع المتهم الذي أخبره أنه مستعد لتسوية الأمور ودفع جزء من المديونية، فاتفقا على اللقاء على كورنيش طنطا. قاد أحمد سيارته بنفسه، ووصل في السابعة مساءً تقريبًا، حيث ركب محمود السيارة وجلس بجواره في المقعد الأمامي. في البداية كان الحديث هادئًا، دار حول تسوية الخلاف وإنهاء المشكلات، لكن سرعان ما تحول الحوار إلى مشادة كلامية حادة، ارتفعت فيها الأصوات، واندفع الغضب في عروق المتهم حتى التقط سكينًا صغيرًا كان يخفيها في جيبه، وسدّد طعنات متتالية إلى صدر قريبه، وسط مقاومة يائسة لم تدم طويلًا، بعدها فتح الباب وهرب تاركًا خلفه جسدًا هامدًا، وجريمة لا يمحوها الزمن. أحد المارة قال إنه لمح المتهم يخرج مسرعًا من السيارة وهو يتلفت حوله باضطراب، ثم ركض نحو أحد الشوارع الجانبية، دقائق بعدها لاحظ الناس وجود شخص داخل السيارة لا يتحرك، فاقتربوا ليفاجأوا بالمشهد المروع، وسارعوا بإبلاغ الشرطة. القبض على الجاني القوة الأمنية التي وصلت إلى المكان طوقت المنطقة بالكامل، وبدأت في جمع الأدلة ورفع البصمات، بينما نقلت سيارة الإسعاف الجثمان إلى مشرحة مستشفى طنطا العام، تحت تصرف النيابة العامة، وبمراجعة كاميرات المراقبة القريبة من موقع الحادث، ظهر المتهم بوضوح وهو يغادر المكان بعد الجريمة، ما ساعد الأجهزة الأمنية على تحديد خط سيره، وضبطه خلال ساعات في أحد الأكمنة على طريق طنطا – شبشير، حيث كان يحاول الهروب. وبمواجهة المتهم، انهار واعترف تفصيليًا بارتكابه الواقعة، مؤكدًا أنه كان يمر بظروف مالية صعبة وضغوط نفسية، وأن المجني عليه لم يرحمه رغم صلة القرابة. وأضاف: «كنت حاسس بالذل، وكل يوم بشوف الناس بتتكلم عني.. كنت عايز أخلص من الإحساس ده»! النيابة العامة أمرت بحبسه 4 أيام على ذمة التحقيقات، وانتدبت الطبيب الشرعي لتشريح الجثمان وبيان سبب الوفاة، فيما كلفت إدارة البحث الجنائي بإعداد تقرير تفصيلي حول ملابسات الجريمة. بيت الأسرة في قرية شبشير الحصة، كان المشهد مغايرًا تمامًا، الحزن غلّف الشوارع، والدهشة جمّدت الألسنة، لم يصدق أحد أن خلافًا ماديًا يمكن أن يتحوّل إلى دمٍ يُراق بين أبناء العمومة، في بيت العائلة، كانت الوجوه شاحبة، والنساء يرفعن الأكف بالدعاء على من «قتل القريب والخُلُق». التقت «أخبار الحوادث» إسماعيل عتمان، شقيق المجني عليه، الذي تحدث بصوت متهدج وقال: «أخويا كان راجل طيب، عمره ما زعل حد، كان دايمًا يقول: القريب ما يتظلمش من قريبه، المتهم كان بيشتغل معانا، وكان فيه بينه وبين أحمد تعاملات مالية، لكن لما بدأ يتهرب، أخويا لجأ للقضاء، ومن أسبوع بالضبط قال لابنه إسماعيل إنه هيقتله لو ما بطلش يطالبه بالفلوس، محدش كان متخيل إنه فعلاً ينفذ تهديده.» واستطرد قائلًا: «أحمد يومها كان صايم، وفطر مع ابنه وقاله: رايح طنطا أقابل محمود علشان نخلص الموضوع، ومشى وهو بيضحك، محدش كان يعرف إنها آخر ضحكة له في الدنيا، مطالباً بالقصاص العادل من المتهم. وفي جنازة مهيبة، شيّع المئات من أهالي القرية جثمان رجل الأعمال إلى مثواه الأخير وسط دموع وحزن عميق، حملوه نعشه على الأعناق، وارتفعت أصوات النساء بالعويل، بينما كان ابنه الأكبر يردد: «حسبنا الله ونعم الوكيل». اقرأ أيضا: جنايات طنطا تنظر أولى جلسات قاتل جاره المسن أثناء عودته من صلاة الفجر