كما لو كان الأمر (تجرعا للسم) عندما ضاقت به السبل ، وأغلقت كل الأبواب، للوصول إلي الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، بعد اقتحام جيش الدفاع الإسرائيلي لمقره فى رام الله ، سوي الحصول علي تأشيرة دخول لإسرائيل. اعرف عدوك ، ولا تطُبع معه، شعار ظهر فى مصر بعد نكسة 1967، واعتبارها البعض سببا لما أحرزته إسرائيل فى ذلك الوقت، فالأمور ستظل على حالها، لن تختلف مادامت أسباب العداء موجودة ، والصراع على حاله.. ولكن علينا ألا يتحول إلى شكل أو وسيلة إلى التطبيع معه ، فيمكن أن تعرف من خلال المتابعة الدائمة لما يجرى هناك من تحركات سياسية ، وفى سنوات عملى الأولى كصحفى ، وتحديدا منذ أول عام 1982حدث تماس مع ملف الصراع العربى الإسرائيلى، استدعت زيارات متكررة للأراضى الفلسطينية، حتى آخر مرة فى ديسمبر 2016 ،إلى قطاع غزة والضفة الغربيةوالقدس، ومعها تنوعت طرق الوصول ، منها الدخول فى إطار تنظيم من الشئون المعنوية للقوات المسلحة بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلى ، كما حدث فى جولة لمناطق جنوبسيناء ، بدأت من مطار إيلات ، وإن كان الهدف منها التعرف عن قرب على المناطق التى ستنسحب منها إسرائيل فى مايو 1982، والثانية فى يوليو 1994 مع عودة الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات إلى وطنه من منفذ رفح ، ومرات أخرى بالتنسيق بين السلطة الوطنية الفلسطينية والجانب الإسرائيلى عبر لجنة الاتصال التى تسهل دخول كبار الشخصيات والمدعوة من قبل الجانب الفلسطينى ، كما تم فى انعقاد الدورة ال 21 للمجلس الوطنى الفلسطينى لتعديل ميثاق المنظمة فى إبريل 1969 ومرات أخرى عديدة ، وآخرها كانت فى ديسمبر 2016 هذه المرة عبر الأردن من مطار عمان إلى منفذ جسر الملك عبدالله ، وتحملنا بعض المضايقات كالعادة فى تأخير الموافقة ، ولكن فى نهاية الأمر خرجنا إلى أريحا ومنها إلى رام الله، وكان الاستثناء الوحيد لكل هذه الزيارات، تلك التى قمت بها منذ 23 عاما فى أكتوبر 2002 ، بعد أشهر قليلة من اقتحام إسرائيل للمقاطعة مقر السلطة الوطنية الفلسطينية ، وحصار الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، يومها كانت السلطة فى أسوأ حالاتها ، فوضى عامة ، وخلافات شديدة فى المستوى الأعلى ، ومع تكليف رسمى مباشر من رئيس مجلس إدارة الأخبار فى ذلك الوقت الكاتب الكبير الرحل إبراهيم سعده، الذى طلب إجراء حوار مع (صديقى عرفات) كما قال، و كان من الصعب طلب أى تسهيلات من السلطة الفلسطينية للدخول فى ظل التأزم بينها والحكومة الإسرائيلية ، ووقف عمل مكتب التنسيق بين الطرفين ،فلم يكن أمامى سوى الخيار الصعب ، والذى تفاديته طوال السنوات الماضية ، وهو الحصول على تأشيرة دخول من سفارة إسرائيل فى القاهرة . ضيف غريب ولهذه الزيارة قصة ، جاء الوقت للكشف عن تفاصيلها بعد مرور 23 عاما ، يومها صعدت إلى مقر السفارة، بعد تسجيل بياناتى عند مكتب الأمن المصرى فى الدور الأرضى ، الدهشة سادت وجوه الموظفين فى السفارة والقنصلية، فقد كنت وجها صحفيا جديدا عليهم، فالذين زاروا تل أبيب من الصحفيين المصريين معروفون بالاسم، ولست منهم بالطبع ،لم يسبق لى أن تقدمت بطلب التأشيرة ، وأى متابع لتخصصى وكتاباتي، وأظن أن المسئولين عن رصد الملف الإعلامى فى سفارتهم فى القاهرة (شطار) فى ذلك، ويسهل عليهم أننى فى الجانب الآخر، ضد التطبيع بالكلية ، ملتزم بقرار الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين ، منحاز تاريخيًا إلى اعتبار إسرائيل عدوا محتلا ، رغم اتفاقيات السلام مع مصر ، والتى التزم بها ، ولكنها لا تلزمنى بالتطبيع، لى شبكة علاقات واسعة منذ أكثر من عشرين عاما مع كل القادة الفلسطينيين، ويكفى مراجعة آخر مقالاتى فى هذا الخصوص ، قبل أسابيع قليلة من طلبى للتأشيرة ، وعلى سبيل المثال ، تقرير كتبته منشور فى مجلة آخر ساعة عن شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلى فى ذلك الوقت، بعنوان (الكداب ، شيمون بيريز .. الرجل ذو الألف وجه ) وعددت فيه صفاته ، فهو (ذئب سياسي) يرتدى ملابس الحمل الوديع ، طموح بلا حدود ، (عجوز) يتنازل من أجل أن يظل فى دائرة الضوء، قادر على التلون، يعانى من احتقار جنرالات الجيش الإسرائيلى له ، وفى أغسطس 2002 وقبل التقدم بطلب الحصول على التأشيرة، كتبت تقريرا عن (خطة شارون لخطف عرفات)، بعد حصار فى مقره بالمقاطعة فى 29 مارس 2002 ، وأن قرار التخلص من الزعيم الفلسطينى اتخذ وتم الإعلان عنه فى بيان رسمى صدر فى عام 2001 ، جاء فيه (قرار اغتيال عرفات أمر محتمل، وإذا حصل مثل هذا الأمر فإن إسرائيل لن يكون لها علاقة به) وكشفت فى التقرير عن مضمون لقاء جمع بين شارون والمبعوث الأوروبى موتوراتنيس فى إبريل من نفس العام، يطلب فيه الإذن للقاء أبو عمار فى مقره، وقال له شارون (هناك قرار حكومى يقضى بعزل أبو عمار عن العالم، وبموجبه لا يمكن لأحد مقابلته)، ولكنه كان كريما ، وعرض عليه لقاءه فى أى مكان فى العالم ، ولكن خارج مقره فى رام الله، وقال له نصا ولكنها (ستكون رحلة فى اتجاه واحد بلا عودة). ثبات انفعالى فى ظل هذه الظروف قررت التقدم بطلب التأشيرة ،المعاملة كانت رسمية ، حاولت أن أحافظ على ثباتى الانفعالي، فى التعامل مع موظفى القنصلية والمسئولين عن الإعلام ، وانتهى الأمر بسرعة ،وكان من حسن الحظ أن النظام فى ذلك الوقت، هو عدم وضع التأشيرة على صفحات الباسبور، وتركها على ورقة منفصلة، والذى يدعو إلى الفخر بكونى مصريًا ، وأن ليس هناك أى تحرك يتم بالمصادفة ،خاصة فى هذا المجال ، إنه لم يمر دقائق ، سوى وكل الأجهزة المعنية بهذا الملف وهى متعددة ، كانت على علم بتفاصيل كل ماجرى ، وجرت اتصالات بى ، لمزيد من المعلومات ، ونصائح بالحرص والاعتناء بأمنى الشخصى ، ورسالة غير مباشرة ، تقول (نحن معك هنا فى مصر ، وهناك خلال تواجدك فى إسرائيل وأراضى السلطة الفلسطينية) وهو ما تأكدت منه بالفعل أثناء أيام الزيارة ، ومنذ هبوط الطائرة إلى أرض المطار ، ومع إقلاعها فى رحلة العودة ، وأظن أنه من المناسب عدم الخوض فى ذلك الأمر بالتفاصيل. فى أرض العدو حالة من التوتر الشديد ، وعدم الارتياح ، أصابتنى والطائرة المصرية تهبط فى مطار بن جوريون ، ولكن إجراءات الدخول كانت ميسرة وسهلة ، بفعل تواجد المسئولين فى المكتب الإعلامى فى السفارة المصرية وللأسف لا أتذكر اسم الملحق الإعلامى ، والذى أحسن صنعا عندما اصطحبنى إلى مقر السفارة ، ولقاء المسئولين هناك، مما أعاد لى بعض الهدوء ، عندما تعرفت على العاملين بها، والذين أبلغونى بتحيات السفير إيهاب الشريف ، رحمه الله رحمة واسعة، وقد سبق لى أن تعرفت عليه أثناء زيارته لمجلة آخر ساعة ، وقيل لى يومها إنه يقوم بجولة كانت مجدولة لزيارة عدد من مناطق عرب 48 ، مع وعد باللقاء قبل سفري، كان على أن أذهب إلى مكتب الإعلام الحكومى، فى القدس للحصول على (كارنيه) لتسهيل مهمتى ، أتذكر يومها أن المسئول الإسرائيلى من الدروز الذين يتمتعون بمكانة مميزة فى المجتمع الإسرائيلى ، وهى الطائفة الوحيدة المسموح لها بالتجنيد فى الجيش الإسرائيلى ، عرض على برنامجا معدا للزيارة ، وبينه إجراء حوار مع شيمون بيريز وزير الخارجية فى ذلك الوقت، وكان ردى هادئا، ولكنه حاسما ، حيث شكرت له اهتمامه، واعتذرت له عن عدم إتمام هذا البرنامج ، وتلك المقابلة ،وأكدت له أن سبب الزيارة ، هو إجراء حوار مع الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات ،مرتب له من القاهرة مع مكتبه فى رام الله، شعرت بالراحة بعد أن تجاوزت الفخ المنصوب لى بعناية، ومنها إلى رام الله حيث انتهيت من حوار أبو عمار، وقد سبق لى أن كتبت عنه فى يوميات سابقة وبكل ما دار فيه ، وتم نشره فى مجلة آخر ساعة فى 11 أكتوبر 2002 ، وكان على أن أذهب إلى قطاع غزة، حيث أجريت العديد من الحوارات ، والتقيت من جديد مع الشيخ أحمد ياسين وقادة حماس، وتسببت زيارتى لغزة فى قلق دبلوماسى للسفارة المصرية نتيجة انقطاع التواصل، ولأن موعد إقلاع طائرتى للعودة كان فى الصباح الباكر ، فقد نصحونى بالمبيت فى أحد فنادق تل أبيب القريبة من المطار، وهو ما فعلته ، وفى انتظار الطائرة التقيت بالسفير إيهاب الشريف ، وقام المسئولون فى المكتب الإعلامى بإنهاء إجراءات الصعود سريعا ، متجاوزا بعض الإجراءات السخيفة ، فى بلد يعلو الأمن فوق كل شيء. محو من الذاكرة وأشهد الله على ما أقول ، أن تفاصيل كثيرة محيت من ذاكرتى عن هذه الزيارة ، وكأن عقلى يحتج على قيامى بها ، على الرغم من أننى زرت دولا لمرة واحدة ، دون نسيان لبعض ماجرى فيها ، مثل العاصمة الصومالية مقديشيو فى نهاية الثمانينيات ، مازالت أتذكر الفندق الذى أقمت فيه ، ورحلتى منه لإنجاز عملى الصحفي، أو للذهاب إلى السفارة، وهو ما تكرر أيضا مع زيارة قمت بها إلى باكو عاصمة أذربيجان، ولكن ليلة تل أبيب ، تم محوها بالكامل تماما.