في مشهدٍ يجمع بين التاريخ والمجد، وبين حضارة ضاربة في جذور الزمن وأمجاد وطنية حديثة، تحتفل المتاحف المصرية بانتصارات أكتوبر المجيدة من خلال تخصيص قطع شهر أكتوبر لتسليط الضوء على البراعة العسكرية للمصريين عبر العصور. اقرأ أيضا.. العد التنازلي بدأ.. المتحف المصري الكبير يستعد لإبهار زواره بكنوز الفرعون الذهبي ويأتي هذا الاحتفاء تأكيدًا على أن الروح القتالية المصرية ليست وليدة عصرٍ بعينه، بل هي امتداد لتاريخ طويل من البطولة والإبداع في فنون الحرب والتنظيم العسكري، بدأ منذ الدولة المصرية القديمة وبلغ ذروته في نصر أكتوبر 1973. وبين جدران المتاحف المنتشرة في ربوع الجمهورية، تتجلى قصص القوة والحكمة والشجاعة في معروضات نادرة تحكي عن مقاتلين ملوكًا وآلهةً محاربين وضباطًا وأبطالًا تركوا بصمتهم على وجه الزمن. - تراثٌ عسكري خالد.. من الماضي إلى الحاضر في إطار المبادرة الشهرية التي تتبعها متاحف الآثار المصرية، والتي تتيح للجمهور عبر صفحاتها الرسمية على "فيسبوك" التصويت لاختيار قطعة الشهر، خُصص شهر أكتوبر هذا العام ليحمل رسالة وطنية خالدة: تاريخ الجيش المصري مصدر للفخر والعزة على مر العصور. وجاءت هذه الخطوة لتؤكد دور المتاحف كمؤسسات ثقافية وتعليمية فاعلة، تُسهم في نشر الوعي الأثري والسياحي، وتعزز الحوار المجتمعي حول قيمة التراث العسكري في تشكيل الهوية المصرية. فمن خوذة محارب مملوكي، إلى رمح قديسٍ قبطي، ومن تمثال الملك تحتمس الثالث إلى سيف محمد علي باشا، تجتمع رموز القوة والشجاعة في عرضٍ متكاملٍ يوثق تطور الفكر العسكري المصري عبر خمسة آلاف عام من التاريخ. - من المتاحف الإسلامية إلى القبطية: بطولات تتجسد في الفن بدأت المشاركة من متحف الفن الإسلامي بباب الخلق، الذي اختار خوذة مملوكية مذهّبة من الصلب، تُمثل براعة الحرفيين ودقة الصناع الذين جمعوا بين الجمال والوظيفة الحربية في آنٍ واحد. تظهر على الخوذة زخارف هندسية دقيقة وآيات قرآنية، أبرزها آية الكرسي، التي كانت تُكتب لحماية المحاربين في المعارك — دلالة على ارتباط الإيمان بالقوة. وفي المقابل، يعرض المتحف القبطي بمصر القديمة أيقونةً فريدة للقديس باسيليدس، أحد ضباط الجيش الروماني، ممتطيًا جواده الأبيض، يلوّح بحربته المزدانة بالصليب، في لوحةٍ تمزج بين الفروسية والإيمان، وتُبرز حضور الجندية في الثقافة المصرية عبر العصور المسيحية. - رموز أكتوبر في متاحف الوطن وفي سياق الاحتفال بذكرى نصر أكتوبر 1973، اختار متحف الشرطة بالقلعة عرض رشاش خفيف روسي من طراز ديجتاريوف استخدمه جنود القوات المسلحة المصرية في معارك التحرير، ليجسد الرابط المباشر بين التاريخ الأثري والمجد العسكري المعاصر. أما متحف المركبات الملكية ببولاق فعرض مسدسًا ملكيًا فاخرًا مُطعّمًا بالذهب، يرمز إلى تحول السلاح من أداة دفاع إلى تحفة فنية تُعبر عن مكانة الجيوش والفرسان في العصور الحديثة، وكيف أعيد استخدامها لاحقًا في المقاومة الشعبية خلال حرب أكتوبر. وفي قصر محمد علي بالمنيل، تبرز مجموعة من الأسلحة الملكية تتصدرها سيوف التشريفة ذات الزخارف الذهبية والمقابض العاجية، لتجسد فخامة السلاح في الدولة الحديثة ودوره الرمزي في الاحتفالات والانتصارات الوطنية. - ملوك ومحاربون من عصور الفراعنة لم تغب رموز القوة القديمة عن احتفالات أكتوبر، إذ قدّم متحف مطار القاهرة الدولي – مبنى الركاب 2 جزءًا من تمثال الملك تحتمس الثالث، أعظم القادة العسكريين في التاريخ المصري القديم، وصاحب أول استراتيجية عسكرية مكتوبة في العالم، الذي وسّع حدود مصر إلى أقصى مدى إقليمي عرفته. وفي المبنى الثالث للمطار، عُرضت أوستراكا ملوّنة تُظهر الملكة حتشبسوت وهي تُقدم القرابين للمعبودات، في مشهدٍ يرمز إلى قوة القيادة النسائية في الدولة الحديثة، حيث كانت الملكة تتولى دور "القائد الأعلى" للجيوش أيضًا. أما متحف إيمحتب بسقارة فعرض مجموعة من المقامع الحجرية التي كانت من أقدم الأسلحة المصرية، وجدت في مقبرة "تي"، وهي دليل على البدايات الأولى للتسلح المنظم في تاريخ البشرية. في حين عرض متحف تل بسطة بالزقازيق نموذجًا من القيشاني يجسد الإلهة سخمت، إلهة الحرب عند المصريين القدماء، بوجه اللبؤة وجسد المرأة، رمزًا للقوة والحماية الإلهية للمحاربين. - من سخمت إلى باستت... آلهة تحمي المحاربين يواصل متحف طنطا القومي هذا الخطّ من خلال تمثال للآلهة باستت، التي تظهر هنا بزيٍّ حربي وهي تحمل درعًا، لتؤكد كيف تجسدت الأنوثة والمحاربة في رمز واحد. أما متحف السويس القومي فعرض غدارة آلية من عصر أسرة محمد علي، مطعّمة بالفضة والذهب، تُظهر التطور الحرفي والتقني في صناعة الأسلحة خلال القرن التاسع عشر. وفي متحف الإسماعيلية، نجد لوحة من الحجر الجيري تُصوّر ست نخت، مؤسس الأسرة العشرين ووالد رمسيس الثالث، وهو يتعبد للإله أنوبيس، في دلالة على قداسة الجندية ومكانتها الرفيعة في العقيدة المصرية القديمة. - البحر والبر في عيون الإسكندرية في شمال البلاد، شاركت متاحف الإسكندرية بعروض لافتة. يعرض المتحف اليوناني الروماني رأسًا للمعبودة أثينا مرتديةً خوذتها الحربية، رمز الحكمة والقوة، تأكيدًا على تلاقي الفكر الإغريقي والمصري في تمجيد البطولة. بينما يقدم متحف الإسكندرية القومي ميدالية تاريخية منقوشة بصورة إبراهيم باشا، القائد الذي قاد جيوشه من نصرٍ إلى نصر، لتربط بين بطولات القرن التاسع عشر وروح أكتوبر الخالدة. ويعرض متحف المجوهرات الملكية مسدسًا فاخرًا من مقتنيات الملك فؤاد الأول، مطعّمًا بالصدف ومحفورًا بنقوش دقيقة، يجمع بين الرفاهية والدقة الميكانيكية. - أبطال من الدلتا والصعيد في متحف كفر الشيخ، يتجسد التاريخ في تمثالٍ من الجرانيت الأسود لقائدٍ عسكري مجهول الهوية، عُثر عليه في قرية متبول، يرتدي الزي العسكري التقليدي، رمزًا لتقدير الشعب لقادته عبر الأزمنة. أما متحف مطروح القومي فعرض سيفًا لمحمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة، دلالة على بناء الدولة الحديثة على أسس القوة والتنظيم. ويحتفي متحف شرم الشيخ بتمثالٍ للملك رمسيس الثاني، بينما يُبرز متحف الغردقة تمثال الملك أمنحتب الثالث محاطًا بالمعبودتين "واجت" و"نخبت"، في مشهدٍ يرمز إلى وحدة مصر العليا والسفلى تحت راية القوة الملكية. وفي الجنوب، يعرض متحف سوهاج القومي نقشًا للقائد وني، أحد كبار رجال الدولة في الدولة القديمة، ممسكًا بالصولجان رمز السلطة والنفوذ، بينما يحتفي متحف الأقصر للفن المصري القديم ب قوس خشبي من الدولة الحديثة، أداةً عسكرية تمثل التطور التقني في التسليح آنذاك. أما متحف ملوي بالمنيا، فيعيد تسليط الضوء على المعبودة سخمت كرمزٍ أبديٍ للحرب والنصر، في حين يختتم متحف النوبة بأسوان العروض بتمثالٍ ضخمٍ للملك رمسيس الثاني يبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار، واقفًا شامخًا ممسكًا بالصولجان والمنشة، نقش على ذراعه اسمه الملكي "رعمسسو" الذي ارتبط بعشرات الحملات العسكرية المظفرة. بهذا التنوع المذهل في العروض والقطع المختارة، تنجح المتاحف المصرية في تقديم ملحمة وطنية متكاملة تربط بين بطولات الماضي ومجد الحاضر. فكل قطعةٍ تُعرض هذا الشهر لا تروي مجرد فصلٍ من التاريخ، بل تُمثل شهادة على استمرارية الروح القتالية المصرية، من ملوك الفراعنة إلى جنود العبور. إنها رسالة فخر للأجيال الجديدة بأن الإبداع في السلم والشجاعة في الحرب وجهان لعملةٍ واحدة اسمها "مصر". ففي كل نصرٍ، وفي كل سلاحٍ أو تمثالٍ أو نقشٍ، يبقى الجيش المصري هو السند والرمز والدرع، منذ فجر الحضارة وحتى عبور النصر العظيم في أكتوبر المجيد.