في العيد ال 52 لنصر أكتوبر العظيم، يحق لكل مصري أن يفرح، ويفخر بامتلاك الوطن لجيش وطني، يحوز القدرة على التأمين والردع والدفاع، دون أي نوازع عدوانية. العمر لحظة. إنها لحظة العبور في ذلك اليوم الخالد، 6 أكتوبر 73، لحظة تعادل عمراً بأكمله. تاريخ يفصلنا عنه أكثر من نصف قرن، فيه تحقق حلم طال انتظاره، فأصبح حقيقة ناصعة، ساطعة. تمضي الأيام بحلوها ومرها، بعسرها ويسرها، لكن لا نتخلف كل عام عن الاحتفال بذكرى نصر مستحق، لشعب لم يعرف المستحيل، وجيش حذف الكلمة من قاموسه، لسبع سنوات تالية، كنا نستعيد تلك اللحظة المجيدة، بفرحة غامرة، وفخر عميق، لكن فى الذكرى الثامنة يحل الترح محل الفرح! ثم تمضى العقود، وقبل أن يكتمل العقد الرابع، يحتل القرح مكان الفرح! فرح.. وترح.. وقرح! سبحان مغير الأحوال، فمن «فرح» فرحاً، أي سُر وابتهج، إلى «ترح» ترحاً، أي أصابه الحزن فهو تَرحٌ، وفي محطة ثالثة يصيبه «قرح» أي جرح، وقرح قرحاً أى بدت به جروح، ويقال قرح قلبه حزناً! 6 أكتوبر 73.. يوم الفرْح لحظة فارقة فى عمر الوطن، ومن يسكنه وطنه، تتحد ذاكرته مع ذاكرة الوطن، وأستطيع أن أزعم أننى شأنى شأن ملايين المصريين فى صميم ذاكرتنا «يعشش» يوم الفرح، يوم النصر المبين، كدرة ناصعة. قبل 52 عاماً بالتمام والكمال،إذ انبعثت عبر أثير الإذاعة والتليفزيون البُشرى: البيان رقم (1) الصادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة، الذى انتظرناه 6 سنوات على أحر من الجمر، ولأنه «رقم واحد»، فلابد أن تكتمل سلسلة البيانات، التى سرعان ما توالت مؤكدة أن النصر آتٍ لا ريب فيه. مفاجأة مذهلة، مزلزلة، رجال مصر الأسود يعبرون القناة، ليسطروا بدمائهم الطاهرة أروع ملحمة وطنية للثأر والكرامة، واسترداد ما أُخذ بالقوة، بقوة أعتى وأكبر، فهى ليست قوة السلاح وحده، لكنها قوة الحق. في هذه اللحظة التى لا تغيب أبداً عن ذاكرتى، استدعيت مقولة محفورة فى عمق الذاكرة: «إن النكسات عوارض فى حياة الأمم العظيمة»، جملة بليغة لا تهدف إلى تضميد جرح غائر عقب نكسة يونيو 67، وإنما حروف تنضح صدقاً وحكمة، لتترجم يقيناً، تنتظم تحت شمسه مصر شعباً، وجيشاً، وقيادة، بأن النصر المبين آتٍ لا ريب فيه. 6 أكتوبر.. لحظة الحقيقة: العبور الذي اقتحم كل العوائق والموانع مهما كانت تبدو صعوبتها. الآن، ورغم عقود مضت، أجد الكلمات تتدفق طازجة، ساخنة، وكأن ما حدث وليد الأمس، حين استمعنا ورأينا أروع كلمات ومشاهد فى العمر كله، ولا أبالغ إن قلت إن ما سجلته وقائع اليوم المشهود، كان بمثابة شهادة ميلاد جديد لى ولكل مصرى، بعد أن ثأر الأبطال ممن توهموا أن الحرب مستحيلة، وإذا اندلعت فالنصر رابع المستحيلات! ولكن لأن دوام الحال من المحال، فثمة لحظات قاسية تعكر صفو النفس، يتمنى المرء لو أنه لم يعايشها قط. واأسفاه، فى ذات اليوم، لحظتان قاتمتان كسحابتين سوداوين مرقتا فى سماء المحروسة، وعانيت، كما كل محب للوطن من تبعاتهما: لحظة مريرة حزينة، وأخرى صعبة ثقيلة. 6 أكتوبر 81.. يوم الترْح كان قد مضى على التحاقي بجريدة «الأخبار» عام وبضعة أشهر، وموعد عملي يومذاك الثانية ظهراً، وابتسمت حين ربطت الذاكرة بين هذه الساعة، وتوقيت العبور قبل ثماني سنوات. غادرت المنزل مبكراً وعلى مقربة من مبنى «أخبار اليوم» سمعت من تلفاز في المقهى المقابل، أصوات طلقات نارية، ثم انفعال مذيع العرض العسكرى صائحاً: خونة.. عملاء، كررها ثم انقطع الإرسال! شُلت ساقى، توقفت لبرهة، ثم انطلقت كالسهم، وفى ثوانٍ معدودات كنت بداخل صالة التحرير، لأجد كل من فيها تطل من عيونهم الدهشة، همهمات قليلة، ومعظم الوجود عقدت ألسنتهم الصدمة، وأسئلة تتكسر حروفها على الشفاة فلا تكتمل، والجميع يبحثون عن إجابة لذات السؤال: ماذا حدث بالضبط؟ بعد دقائق، وصل فاروق الشاذلى المحرر العسكري ل «الأخبار»، دخل مهرولاً رغم ضخامة بنيانه، ودون أن نسأل أجاب: وقع إطلاق نار في ساحة العرض، مستهدفاً المنصة، لكن اطمئنوا الرئيس بخير، ولا يوجد إلا إصابات خفيفة، وتمت السيطرة على الموقف!! تساءلت، وكأني أهمس لنفسي: هل يُعقل أن يستهدف كائن من كان المنصة التي يتصدرها صاحب قرار العبور، بينما نستحضر ذكرى النصر. وتوالت الأنباء الحزينة، الفرح بات ترحاً! استشهد صاحب قرار العبور، فى ذكرى يوم النصر، قتله الخونة الذين لا عهد لهم ولا ذمة. ويشاء القدر أن ينفرد مكرم جاد الكريم مصور «الأخبار» بتسجيل ما حدث، ويكلفنى سعيد إسماعيل كبير المخرجين بأن يكون «كنز الصور» عهدتى. تحول يوم الفرح العظيم، إلى يوم ترح عظيم! هكذا، كان الفعل الإرهابى الغادر فى يوم 6 أكتوبر 1981، محاولة لاغتصاب الفرحة، لكن غاب عنهم أن مصر أكبر من الأشخاص، وأن النصر أعظم من أن يخصم من رصيده أى فعل خسيس. 6 أكتوبر 2012.. يوم القرح .. وأيضاً، لن يغيب عن ذاكرتى ما حدث في هذا اليوم، الذى دارت أحداثه الغرائبية قبل 13 عاماً، وامتزج فيه العام بالخاص. كانت الذكرى 39 للنصر المجيد، لكن من اغتصبوا صدارة المشهد، لم يكونوا ليعرفوا للوطن قدره، ولا للنصر مكانته، بل ربما ينكرون - من الأساس - معنى الوطن وقيمته، ولا يوارون أمنيتهم بأن تكون الهزيمة من نصيب جيشنا! فى غفلة من الزمان، شكل«الخوان المتأسلمون» جملة اعتراضية فى تاريخ الوطن، وكانت قمة المأساة أن من يحمل عقيدة تثمن حرب أكتوبر «تمثيلية»، هو من يحتفل بذكراها! كان المشهد فى عمومه وتفاصيله، لا يليق بعظمة المناسبة: الذكرى 39 للنصر العظيم. صادف ذلك أن كنت ضيفاً على إحدى القنوات الفضائية، ولم أفوت الفرصة، معلقاً على ما كان يستفز ملايين المصريين، فكان ما قلته يعبر عن ضمير الشعب. تساءلت على الهواء: كيف يدخل «مرسى» ستاد القاهرة - مقر الاحتفال - فى سيارة مكشوفة - وكأنه أحد صناع النصر - لتطوف به أرجاء الملعب بينما المدرجات غاصة بعشيرته، وفى الصدارة يصطف قتلة صاحب قرار العبور، فهل كانوا يحتفلون حقاً بذكرى النصر، أم يخلدون اليوم الذى اغتالوا فيه الشهيد أنور السادات؟ ووجهت سؤالى للمذيعة، لا لأستمع إجابة، وإنما لأنبه المشاهد لبُعد آخر من أبعاد المأساة: هل ندرى من كان ينظم الدخول؟ تصورى إلى جانب قوات الشرطة والجيش، كان هناك أعضاء حزب مرسى، الذين منعوا الصحفيين من دخول المقصورة الرئيسية لتغطية الاحتفال! ثم تكتمل أركان المهزلة بالسماح فقط لأعضاء حزب الحرية والعدالة من أصحاب الدعوات الخاصة بالنزول لأرض الملعب أمام المنصة الرئيسية للاحتفال!! الأكثر إثارة للحزن، إن صناع النصر من قدامي المحاربين كانوا مهمشين تماماً. كان ذلك جانباً مما ذكرته مستنكراً على الهواء مباشرة يومذاك. 6 أكتوبر 2025.. عودة الفرح ما قل ودل: مصر اليوم فى عيد. رغم الحملة الشرسة على مصر وجيشها، جاء 6 أكتوبر هذا العام، ودرعها الواقية، جيشها الوطنى سيفاً بتاراً فى وجه من يوسوس له شيطانه، بمجرد المساس بأمن مصر، وسلامتها، وحق شعبها الأبى فى الحياة، وأن يعم أرضها السلام. في 6 أكتوبر 2025، يتأكد بالشواهد والحقائق التى لا ينكرها إلا جاهل أو جاحد، أن الجيش المصرى الذي حقق نصراً مبيناً فى أكتوبر 73، كان، ومازال، وسيظل يمتلك القدرة على حماية الوطن والذود عن حدوده ودياره، دون أن يستطيع كائن من كان النيل «ولو قيد أنملة» من روحه المعنوية والقتالية، وأن أى محاولة لكسر مصر، أو كبح نهضتها، أو وأد دورها، أضغاث أحلام، ويقيناً دونها المستحيل. فى العيد ال 52 لنصر أكتوبر العظيم، يحق لكل مصري أن يفرح، ويفخر بامتلاك الوطن لجيش وطني، يحوز القدرة على التأمين والردع والدفاع، دون أي نوازع عدوانية، وستبقى روافده ممتدة لأعماق شعبه، وجذوره ثابتة فى كل بقاع الوطن، ورءوس رجاله عالية، وراياته خفاقة تطاول عنان السماء.. وكما انتصر فى معركة التحرير عام 73، سحق الإرهاب عبر عقد من الزمان، ولم يتخلف عن الإسهام فى معركة التعمير على أرض سيناء الطاهرة، فى ثلاثية تؤكد أن لمصر جيشاً يحمل سلاحه دائماً للدفاع عن شرف الأمة، وكرامتها، وحريتها، لذا يحق لنا أن نسترد الفرحة التى غابت مرة بفعل الغدر، وأخرى بوطأة الغفلة، وثالثة من جراء الإرهاب الأسود، وقد برئنا منها جميعاً. فلنفرح، مؤمنين أن الفرحة لن تغادرنا رغم كل التحديات.