تمثل شراكة مصر مع شركة روساتوم، لبناء محطة الضبعة للطاقة النووية، أكثر من مجرد تحول استراتيجي نحو الطاقة النظيفة؛ إنها محفز هيكلي لإعادة تشكيل القاعدة الصناعية في البلاد، حيث تدفع المقاولين والموردين والجهات التنظيمية المحليين إلى التماشي مع أعلى المعايير العالمية في مجالات الهندسة وضمان الجودة. باعتبارها أول محطة للطاقة النووية في مصر، ومشروعًا رائدًا على مستوى القارة الإفريقية، تُعد الضبعة علامة فارقة تربط طموحات مصر طويلة المدى في مجال الطاقة من خلال تحقيق السيادة التكنولوجية والتميز الصناعي . ◄ أبرز المعلومات عن المحطة تقع محطة الضبعة على الساحل الشمالي لمحافظة مطروح، وتضم أربعة مفاعلات من الجيل الثالث المطور VVER-1200 ، بسعة 1200 ميجاواط لكل مفاعل. وعند تشغيلها بالكامل، ستوفر المحطة قدرة أساسية تصل إلى 4.8 جيجاواط من الكهرباء، وهو ما يكفي لتغذية ملايين المنازل والصناعات الثقيلة. غير أن القصة الأعمق لا تكمن في قدرة المحطة، بل في المنهجية المتبعة؛ حيث أصبحت الضبعة بسرعة منصة اختبار حقيقية للمقاولين المصريين الذين يسعون للامتثال للمعايير النووية الصارمة في التصميم والبناء والصيانة . اقرأ أيضا| وزير الكهرباء يتابع مع رئيس شركة «روسآتوم» تطورات مشروع محطة الضبعة النووية وأكدت الإنجازات الإنشائية الأخيرة الزخم المستمر للمشروع. فمنذ صب الخرسانة الأولى في الوحدة الأولى في يوليو 2022، تبعت الوحدات الأخرى بخطى مدروسة؛ فقد بدأت أعمال الوحدة الثانية في نوفمبر 2022، وانطلقت الوحدة الثالثة في مايو 2023 بعد صب خرسانتها الأولى، فيما لحقت بها الوحدة الرابعة في يناير 2024. ومن الجدير بالذكر أن هيئة الرقابة النووية والإشعاعية المصرية (ENRRA) أصدرت تراخيص بناء منفصلة لكل وحدة بعد مراجعات فنية دقيقة، مما يعكس نضج الإطار التنظيمي المصري وامتثاله للمعايير الدولية للسلامة النووية . ◄ مكونات الأمان الحيوية شهد المشروع العديد من الإنجازات التقنية خلال عامي 2024 و2025، مثل تركيب الجزء الثالث من الاحتواء الداخلي للوحدة الثانية خلال أسبوعين فقط باستخدام رافعة خاصة بوزن 1350 طن، ما يُبرز ليس فقط حجم التعقيد الهندسي بل أيضًا كفاءة الفرق المحلية والدولية التابعة لروساتوم. كذلك، وصلت مكونات الأمان الحيوية مثل «مصيدة قلب المفاعل» للوحدة الثالثة – وهو نظام أمان سلبي متطور – ويتم حاليًا تحضيره للتركيب باستخدام رافعة عملاقة جديدة بسعة 2000 طن، وهي أنظمة تعكس فلسفة روساتوم في السلامة لمفاعلات الجيل الثالث وتضع الضبعة في مصاف المحطات النووية الأكثر تطورًا عالميًا . ◄ نسب المكون المحلي ومع ذلك، فإن ما وراء عناوين الإنجازات الإنشائية، هناك رواية تحوّلية لا تقل أهمية: إعادة تشكيل النظام الصناعي في مصر. فقد أصبحت الضبعة عاملًا مضاعفًا لقدرات الصناعة المحلية، حيث تشارك العديد من الشركات المصرية في سلاسل الإمداد والأعمال التحتية للمشروع، بشرط واحد: الامتثال الكامل لمعايير الجودة الخاصة بالصناعات النووية، والتي تقتضي التوثيق الكامل، وقابلية التتبع لكل خطوة، والالتزام الصارم بدءًا من خلط الخرسانة وحتى تركيب الكابلات الكهربائية . ولإدارة هذا التحول الجذري، تعمل روساتوم بالتعاون مع هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء (NPPA) على تحقيق هدف طموح يتمثل في تعميق نسب المكون المحلي. وهذا ليس فقط تعبيرًا عن الفخر الوطني، بل خطوة استراتيجية لتعزيز قدرة الصناعة المصرية على المنافسة مستقبلًا، وفتح الباب أمام شركاتها للمشاركة في مشاريع نووية مماثلة حول العالم، ما يدمج الخبرة المصرية ضمن سلاسل القيمة العالمية . وتتلاقى هذه الجهود مع طموحات مصر الكبرى لتصبح مركزًا إقليميًا للطاقة والصناعة. فمع اقتراب انطلاق مشاريع تصدير الكهرباء وإنتاج الهيدروجين والتصنيع المتقدم، تمثل الطاقة النووية ليس فقط ركيزة أساسية للطاقة النظيفة، بل أيضًا نقطة انطلاق نحو نمو موجّه للتصدير. المهارات والتقنيات ونظم الإدارة التي يتم تطويرها من خلال مشروع الضبعة ستنعكس على قطاعات اخرى كصناعة الطيران، والسكك الحديدية، وتحلية المياه، وشبكات الكهرباء الذكية . ◄ سلاسل الإمداد الصناعية يشمل أوجه التقدم في مشروع الضبعة أيضًا تنمية القدرات البشرية، حيث يُبنى حاليًا مجمع تدريبي بمساحة 5,000 متر مربع في موقع المشروع لتأهيل جيل جديد من الكوادر النووية. ويضم المجمع قاعات تدريب ومحاكيات ومنشآت عملية، ويستهدف تدريب أكثر من 20,000 عامل على تشغيل المفاعلات، ونُظم السلامة، والاستجابة للطوارئ، بما يضمن الاستقلالية التشغيلية طويلة الأمد . من هذه الزاوية، تبدو الضبعة أكثر من مجرد مشروع بنية تحتية للطاقة؛ إنها بوابة لمعايير صناعية أعلى، تدفع نحو الرقمنة، والامتثال، والمساءلة في قطاعات البناء والتصنيع في مصر. ولن يُقاس نجاحها فقط بما تولده من حرارة، بل بمدى جاهزية الشركات والكوادر المصرية لقيادة مشروع من هذا الحجم وفقًا للمعايير الدولية . وفي السنوات القادمة، ومع بدء تشغيل المفاعل الأول وبدء تغذية الشبكة الوطنية بالكهرباء النووية، فإن العوائد الحقيقية ستتجاوز بكثير حدود الطاقة. فالضبعة ترسي معيارًا وطنيًا جديدًا يُثبت أن الشراكة والرؤية والانضباط قادرة على تحويل مصر من مستهلك للتكنولوجيا المتقدمة إلى مساهم فعّال في سلاسل الإمداد الصناعية الأكثر تطورًا في العالم .