إذا كان مهرجان الجونة السينمائي انتقل من مرحلة البريق إلي مرحلة التأثيرفي دورته الثامنة التي تنطلق الخميس المقبل، فهو بذلك يعمل ترسيخ مكانته كمنصة حيوية للسينما العالمية، وتتجسد ملامح هذه المرحلة عبر مسابقة الأفلام الروائية الطويلة التي تضم هذا العام مجموعة من الأعمال المتنوعة جغرافياً وجمالياً، يلتقي من خلالها صناع السينما على أرض الجونة ليقدموا حكايات تعكس قلق الإنسان المعاصر وتفتح باب الحوار حول قضايا الذاكرة والهوية والأسرة والفن. تأتي الأفلام المشاركة من مشارب مختلفة، فهناك أوروبا "إسبانيا، فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، بريطانيا، بولندا"، وأمريكا اللاتينية "كولومبيا"، وآسيا "اليابان، الهند"، إضافة إلى الحضور العربي المميز من مصر وتونس، هذا التنوع يعكس قدرة المهرجان على أن يكون جسراً بين "مراكز السينما" الكبرى وبين تجارب "الهامش"، مما يمنحه خصوصية تميزه عن غيره من المهرجانات في المنطقة العربية. فمثلا أفلام مثل "بريق الجبال البعيدة" و"مدعيان عامّان" تستدعي الماضي القريب: من جراح ناجازاكي بعد الحرب العالمية الثانية إلى القمع الستاليني في ثلاثينيات الاتحاد السوفيتي، السينما هنا تتحول إلى مرآة للتاريخ، تكشف كيف يستمر أثره في الحاضر، أما الأفلام المصرية "كولونيا" و"المستعمرة"، إلى جانب الفيلم الهندي "المحاصر" تعكس البنية الأسرية كفضاء للامتحان، فالأب والابن، أو الأخوان، أو الزوجة والزوج، يجدون أنفسهم مضطرين لمواجهة ضغوط نفسية واجتماعية تهدد تماسك العائلة ، وفي "الحج" الاسباني و"وين ياخذنا الريح" التونسي، يقود البحث عن الجذور والتمرد على الواقع شخصيات شابة في مسارات وجودية لا تقل خطورة عن مغامراتها المادية، إنها أفلام عن الانتماء، وعن الحلم بالهروب وإعادة اكتشاف الذات ، وفي "من أجل آدم" البلجيكي، و"نينو" الفرنسي، نقترب من شخصيات تقف على الحافة: بين الطفولة المهملة أو المرض النفسي والجسدي، حيث تتكشف تفاصيل يومية تنبض بالإنسانية، وتجعل من أبسط القرارات اختباراً عميقاً للمعنى. الحضور العربي هذا العام ليس رمزياً، بل نوعياً، مع ثلاثة أفلام رئيسية: "كولونيا" و"المستعمرة من مصر، و"وين ياخذنا الريح" من تونس، اللافت أن جميعها خرجت من برنامج "سيني جونة" لدعم الإنتاج، ما يعكس دور المهرجان كحاضنة حقيقية للمشاريع السينمائية، وليس مجرد منصة للعرض، وموضوعياً، تميل هذه الأفلام إلى مساءلة الواقع الاجتماعي والاقتصادي والجيل الجديد، أكثر من انشغالها بالسياسة المباشرة، وهو ما يعكس تحوّلاً في لغة السينما العربية المستقلة. تكشف مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الجونة عن برمجة واعية، تراهن على السينما الإنسانية العميقة لا على الأعمال التجارية، وهذا يمنح المهرجان صورة نخبوية، لكنه يطرح سؤالاً مفتوحاً: هل يمكن لهذه الأفلام، بكل ثقلها الفني، أن تصل إلى جمهور عربي واسع يتطلع إلى لغة بصرية جديدة؟. ومع حضور نسائي لافت "كارلا سيمون، آمال القلاتي، لورا واندل، بولين لوكيه"، يبدو أن المهرجان ينسجم مع التحولات الكبرى في السينما العالمية، حيث تتقدم أصوات المخرجات بقوة. في النهاية، تعكس هذه المسابقة أن السينما، من ناجازاكي إلى الإسكندرية، ومن بوغوتا إلى باريس، تظل مساحة مشتركة لطرح الأسئلة الإنسانية الأبدية: عن الحب، والخسارة، والذاكرة، والأمل. اقرأ أيضا|السينما المصرية تحل ضيفًا بمهرجان بيونج يانج الدولي 2025