سألته أخيرًا: وماذا يعنى الضوء؟، فقال: الضوء يعنى الأمل، انسى يا صديقى الخريف والشتاء واكتب عن الضوء والأمل. كأن عقلى جف تماما ويرفض الانصياع حتى لإلقاء كلمة واحدة على الورق، قلم تيبس حبره أو تصلبت عروقه وشرايينه، فصار عودا جافًا إذا غامرت بثنيه ينكسر فورًا ولا ينحني، لا أفهم لماذا! فكرت.. ربما بات المحيط خشنًا جدًا، أو تدفقت الأخبار والأحداث بغزارة أكثر زخمًا مما يتحمله عقلي، أو لعله هدوءا خطيرا أصابنى بعد الأربعين، فبدلنى إلى محتال متمكن يستطيع التحكم فى ملامحه وهيئته فلا يبدو على وجهه ما يدور برأسه، ولا يعكس كلامه أفكاره الحقيقية، ولا يخرج على لسانه ما لا ينبغى الصراخ به فى وجه أحد، أو تعرف.. ربما تغيير الفصول يفعلها! حتى تبدل الفصول لم أفهم مرة واحدة لماذا يصيب بهذه الحالة، يقول الأطباء والمتخصصون وخبراء العلوم والمنجمون والعاطلون: إن الحالة طبيعية جدًا وليس هناك ما يقلق، أن مزاج الناس يتعرض لتقلبات شديدة خلال الانتقال من الصيف للخريف، حتى يحل فصل الشتاء فيعتدل المزاج، فتساءلت إذن أدمغتنا تفضل الشتاء وتحبه، فقيل لي: إنه ليس هكذا بالضبط، ولكن يعتاده الناس لما يستقر ويسيطر! فسألت: إذن يميل الناس للسيطرة، فقيل لي: إن المسألة ليست هكذا بالضبط أيضًا، لكنها ترتبط بحالة اعتياد تفرض نفسها، فتبدأ الدماغ فى التسليم بها، ثم يحاول الجسد التأقلم معها فتستقر الأمور. إذن للحالة علاقة باعتياد الأمور أو ترتاح الناس إلى الاستقرار، هكذا فكرت. إذن فليكن الاعتياد أو الاستقرار أحدهما أو كلاهما هو مربط الفرس للهدوء والتأقلم والانسجام. ثم تساءلت هل ثمة علاقة بين الحر وتحسن المزاج؟، فقيل لي: بالطبع لا، فالحر يقيد النفس ويضيق الصدر ويخنق الروح!، فسألت: لماذا الصيف أفضل إذا كانت هذه أعراضه؟، فقيل لي: الضوء هو السر. إذن لعل الكيف يتأثر بشيء تضخه أجسادنا فى فصل الصيف مثلًا وتتراجع عنه فى الخريف والشتاء؟، تساءلت، فقيل لي: إنه بالفعل فى فصل الصيف يفرز الجسم فيتامين د ومواد كيميائية معقدة التأثير، منها مثلا السيرتونين الذى يُحسن الشهية والمزاج، وغيرها من التفاعلات التى لا أظن جسدى صار يقدر على القيام بها. فقيل لى بالطبع هذا جزء من كل، ولكن هذه التفاعلات هى نتيجة وليست بادئ المعادلة، والمعادلات عادة تبدأ بمعطيات تؤهلنا لنتائج، إذن ما المعطى الأولى لهذه المعادلة، سألت!، فأجيب على بأن المدخل المشترط وجوده هو الضوء!، فسألت: الضوء؟، فكررها: نعم الضوء. إن الضوء وحده كفيل ببدء المعادلة وتشغيلها وضمان نتائجها، ففكرت بأن الضوء يمنح الجسم هذه التفاعلات المفقودة الآن وربما نقصه فيما بين الفصول يصيبنا بهذا الجفاف، فقيل لى اننى بدأت أفهم لكنى لم أزل على احبو على قشور العقل ولم أدركه. فسئمت جدًا من جهلى وكدت - كما العادة لما أيأس- اقلع عن المحاولة، محاولة الفهم! فتلقفنى أحدهم برفق شديد ومسح على وجهى وسألني: ماذا كانت غايتك؟، فأجبته بأننى مسئولًا وملتزمًا بالكتابة اليوم عن شيء واحد يُفيد أو يقدم فكرة مختلفة، فسألني: وماذا عن الضوء؟، فكدت أغضب مجددًا، فهدأنى وقال: أكتب عن الضوء، الصيف يعنى الضوء والخريف يصيبه بغيام والشتاء يمنحنا نورا فقط لا ضوء، لذلك أنت مرتبك وليس محتالا كما تقول. سألته أخيرًا: وماذا يعنى الضوء؟، فقال: الضوء يعنى الأمل، انسى يا صديقى الخريف والشتاء واكتب عن الضوء والأمل.