ليس مجرد «اتفاق وقف نار» جديد، ما جرى هذا الأسبوع هو انتقال حقيقى من إدارة حربٍ مفتوحة إلى إدارة سياسةٍ ممكنة، وبرافعة مصرية واضحة، ف«المرحلة الأولى» من الاتفاق بين إسرائيل وحماس أُنجزت على الطاولة المصرية، مع برنامج زمنى لإطلاق الأسرى، وبدء انسحابٍ مرحلى، وإدخال مساعدات واسعة، بينما تتحضَّر الأممالمتحدة لقفزة إنسانية كبيرة فى أول 60 يومًا من التهدئة.. هذه ليست تفاصيل فنية؛ إنها خريطة طريق صاغتها القاهرة، ووافقت عليها عواصم كبرى، وتنتظر الآن اختبار التنفيذ على الأرض. لماذا نجحت القاهرة حيث عجزت عواصم أخرى؟ لأن مصر جمعت ثلاثة عناصر فى وقتٍ واحدٍ: قناة تواصل مفتوحة مع كل الأطراف (إسرائيليين، فصائل، رعاة دوليين)، ومكان تفاوض آمن ومُحايد (شرم الشيخ)، ولغة هادئة تُقدِّم «حلولًا قابلة للتطبيق» لا شعارات مرتفعة، هكذا تبلورت الصيغة: هدنة تُوقف النار، تبادل أسرى على دفعات، انسحاب مرحلى إلى خطوط متفق عليها، ثم دخول منظَّم للمساعدات، وإعادة الخدمات الأساسية. الإعلان تمّ من القاهرة، والتحق به ترحيبٌ أممىٌّ وخطوات لوجستية لاستيعاب قوافل الإغاثة. سياسة هادئة تقود لنتائج رسائل الرئيس عبد الفتاح السيسى فى الساعات الأخيرة جاءت مختصرةً وواضحةً: تثمين الوصول إلى اتفاق، الدعوة لتطبيقه دون إبطاء، والتشديد على أن مصر ستبقى فى قلب الجهد حتى يتحوَّل وقف النار إلى استقرارٍ فعلىٍّ. الرئاسة جدَّدت كذلك دعوةً رسمية لحضور التوقيع فى القاهرة عند اكتمال الإجراءات - وهو تفصيل سياسى مهم؛ لأنه يضع مصر فى «مسرح التنفيذ» لا فقط «مسرح الإعلان». اختبار الثقة مع واشنطن الولاياتالمتحدة تبنَّت إطار الخطة، وأعلنت أنها ستدعم غرفة تنسيق متعددة الجنسيات لمهام الاستقرار- من دون دخول قوات أمريكية إلى غزة-، وهو ما ينسجم مع هندسة مصرية تُفضِّل الأدوار المشتركة لا الوصاية المنفردة سياسيًا. تحدَّث الرئيس ترامب عن أنه سوف يزور المنطقة / مصر «الأحد»، والفارق هنا مهم؛ لأن القاهرة تتعامل مع «دعوات وتنسيق وتعهّدات» لا مع صور بروتوكول. العنوان الحقيقى الآن: كيف تتحوَّل الرسائل الأمريكية إلى ضمانات تنفيذ، لا إلى احتفال رمزى؟ ما الذى تغيَّر إقليميًا؟ ببساطة: مركز الثقل عاد إلى القاهرة، الوساطة لم تكن موسميةً ولا إعلاميةً؛ كانت إدارة ملفات متوازية: أمن الحدود، خطوط إدخال المساعدات، وتنسيق سياسى متعدد الأطراف (مصرى - قطرى - تركى - أمريكى) على أرضٍ مصرية، ومع اكتمال «المرحلة الأولى»، أصبح ممكنًا الحديث عن «هندسة تهدئة» عربية تُقلَل مساحة المفاجآت وتزيد كلفة العودة إلى الحرب، حتى مؤشرات الأسواق التقطت الإشارة بانخفاضٍ فى «علاوة المخاطر» على النفط مع تراجع احتمالات الاتساع الإقليمى. مستقبل غزة: بين إدارة اليوم التالى وحراسة المعنى السياسى التهدئة ليست غاية، بل بداية لإدارة «اليوم التالى»، التحدى ثلاثى: إنسانى/ خدمى: رفع السقف اليومى للمساعدات وإصلاح القطاعات الحيوية سريعًا. أمنى: منع أى احتكاك يُعيد تدوير القتال، عبر غرفة تنسيق إقليمية - دولية بولاية محددة. سياسى: خلق مسار واقعى للحكم والإعمار يدمج المؤسسات الفلسطينية ويمنع الفراغ.. القاهرة هنا ليست «ضامن أوراق» بل «ضامن إيقاع» -أى الطرف الذى يُوازن بين الأمن والمعيشة حتى لا تموت الهدنة فى تفاصيل التنفيذ. العلاقة مع واشنطن: من التزاحم إلى التقاسم إذا كانت القاهرة قادت «التأسيس»، فالمطلوب من واشنطن أن تقود «التمكين»: تمويل إنسانى فورى، ضغط سياسى لتثبيت مسارات الانسحاب وتبادل الأسرى، ومظلّة دبلوماسية تمنع تسييس المعابر، والإغاثة بهذا التقاسم تتحوَّل التهدئة إلى «شراكة عمل» لا سباق أدوار إن صحّ أن ترامب يعتزم الزيارة قريبًا، فالمعيار ليس موعد وصوله بل نوع الضمانات التى سيحملها وكيف ستُترجم فى غرفة العمليات المشتركة. مصر تُعيد تعريف مفهوم الوساطة الوساطة فى المفهوم التقليدى تعنى نقل الرسائل، أما مصر فذهبت إلى ما هو أبعد: إدارة توازن المصالح المتعارضة بين الأطراف لم تُقدِّم نفسها طرفًا نزيهًا فقط، بل طرفًا ضامنًا، له أدوات ضغط وإقناع فى آنٍ واحد، فهى تُدرك أن الحرب فى غزة لم تعد مجرد صراع فلسطينى - إسرائيلى، بل ساحة اختبار للإقليم بأكمله، وأن ضبط هذا الإيقاع لا يُمكن أن يتم إلا من موقع مركزى يحظى بالثقة من الجميع.. القاهرة اليوم لا تتحدَّث باسم أحد، بل بلغة الجميع. أين يُمكن أن تتعطل العربة؟ أربع نقاط هشَّة: تعريف «الخرق» و«الرد»، وتزامن خطوات الأسرى/ الانسحاب/ الإغاثة، وخريطة السيطرة على المعابر، وملف «من يحكم ماذا ومتى». هنا تحديدًا يحتاج المسار إلى آلية تحكيم سريعة (عربية - أممية) بمهلة 72 ساعة لأى نزاع تطبيقى - آلية تُخرج القرار من سجال الإعلام إلى مقياس التنفيذ. أولًا: التحدى الأكبر.. إدارة ما بعد الصمت الهدوء لا يعنى نهاية الأزمة، بل بدايتها الحقيقية، فبعد أن تخفت أصوات المدافع، تبدأ معركة أخرى: معركة إدارة التوقعات، مصر ستكون مطالبةً بضمان ألا تتحول الهدنة إلى فخ سياسى، وألا تستغل إسرائيل المرحلة الأولى لإعادة تموضع قواتها أو لإضعاف المقاومة سياسيًا، وهنا يبرز الدور الحاسم للمؤسسة الدبلوماسية المصرية التى ستتولى مراقبة التطبيق الميدانى بالتنسيق مع الأممالمتحدة، مع فرض جدول مراجعة كل أسبوعين لتقييم التقدم. ثانيًا: المستقبل السياسى للقطاع.. ما بعد الهدنة المشهد القادم فى غزة لا يُمكن عزله عن خريطة السلطة الفلسطينية ككل، فالهدنة الحالية قد تفتح الباب لإعادة هيكلة السلطة أو تكوين مجلس انتقالى فلسطينى موسّع، وهو ملف تعمل عليه القاهرة منذ شهور. مستقبل القطاع لن يكون عودة إلى الوضع السابق، بل محاولة لخلق كيان إدارى - خدمى فلسطينى يضمن الأمن ويُهيئ لانتخابات حقيقية فى المدى المتوسط، وهذا هو الجوهر فى التحرك المصرى: لا تكتفى القاهرة بوقف النار، بل تُحاول أن تضمن ألا يُولد من رحم الحرب فراغٌ سياسيٌ جديد. السياسة تُكتب بهدوء القاهرة لا بصخب الآخرين الذين راقبوا تحركات مصر فى هذا الملف يُدركون أن القاهرة لا تُعلن إلا بعد أن تُنجز، لا تصريحات حماسية، لا ضجيج إعلامى، بل عمل متواصل يُفضى إلى نتائج النجاح، هذه المرة ليس فى تحقيق تهدئة فحسب، بل فى استعادة مصر موقعها كصانعٍ للأمن الإقليمى، وشريكٍ لا غنى عنه فى أى معادلة تخصّ فلسطين والمنطقة. وعندما تُصبح القاهرة مجددًا منصة القرارات الكبرى، فذلك يعنى أن المنطقة ربما تدخل مرحلة جديدة، تُدار فيها الأزمات بالعقل لا بالاندفاع، وبالواقعية لا بالشعارات، اختراق القاهرة ليس صدفة ولا «ضربة حظ» إنه حصيلة مدرسة سياسية هادئة تعرف كيف تجمع المتناقضين على أرض واحدة، وتُخضع العناوين الكبيرة لجدول أعمال صغير ودقيق وقابل للقياس. إذا أردنا للهدنة أن تعيش، فلتبقَ مصر «مركز الثقل» فى إدارة الإيقاع، ولتتحوّل العواصم الداعمة - وفى مقدمتها واشنطن - من «مُعلقين» إلى «مُموّلين وضامنين»، عندئذ فقط يُصبح وقف النار بداية سياسة، لا هدنة مؤقتة تنتظر الرصاصة التالية.